رسائل متبادلة بين المهاتما غاندي وليو تولستوي تظهر مدى عظمة كلّ منهما

رسائل متبادلة بين المهاتما غاندي وليو تولستوي تظهر مدى عظمة كلّ منهما

فندق قصر وستمنستر
4، شارع فيكتوريا،
لندن، S.W.
1 أكتوبر، 1909.

إلى الكونت ليو تولستوي

سيدي،

أسمح لنفسي أن ألفت انتباهكم إلى ما يدور في الترانسفال (جنوب أفريقيا) منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.
“في تلك المستعمرة هناك ما يقارب 13،000 نسمة من الهنود البريطانيين. هؤلاء الهنود عملوا جاهدين لسنوات في إطار العديد من المعوقات القانونية. فالتحيز ضد اللون وبشكل ما ضد الآسيويين يطغى في تلك المستعمرة. ويرجع ذلك بشكل أساسي، وخاصة في ما يتعلق بالآسيويين، للغيرة المتبادلة.

وكانت ذروة الأحداث قد حصلت قبل ثلاث سنوات، مع القانون الذي أعتبره أنا وآخرين كثر أيضاً اعتبروه مهيناً ويرادُ به انتهاك انسانية أولئك الذين يطبق عليهم. شعرت أنّ الخضوع لقانون من هذا النوع لا يتفق مع الروح الحقيقية للدين. أنا وبعض أصدقائي كان ومازال لدينا إيمان راسخ بمذهب عدم مقاومة الشر. كان لي أيضاً شرف دراسة كتاباتك، والتي تركت انطباعاً عميقا في ذهني.

لقد تقبّل الهنود البريطانيون، الذين تمّ شرح الموقف أمامهم بشكل كامل، النصيحة، وهي أنّه ينبغي علينا عدم الالتزام بهذه القوانين والتشريعات، وتحمّل عقوبة السجن بدلاً من ذلك، أو أياً كانت العقوبات الأخرى التي قد تفرض على المخلين بهذه القوانين. وكانت النتيجة أنّ نصف ما يقرب من السكان الهنود، أمّا الأشخاص الغير قادرين على تحمّل عناء النضال، أو التعرض لمشقّة السجن، فقد انسحبوا من الترانسفال بدلاً من أن يرضخوا للقانون الذي اعتبروه مهيناً. وقد عوقب ما يقرب من 2،500 شخص وعرّضوا أنفسهم للسجن من أجل قضية الضمير هذه، بعضهم سجن خمس مرات. وقد اختلفت مدة السجن من أربعة أيام ولغاية ستة أشهر؛ في معظم الحالات مع الأشغال الشاقة. وتعرض العديد منهم للإفلاس. في الوقت الحاضر هناك أكثر من مائة من المقاومين السلميين في معتقلات الترانسفال.

كان بعض هؤلاء الرجال فقراء للغاية، وكانوا يكسبون أرزاقهم بشكل يومي. ونتيجة لذلك كان على زوجاتهم وأطفالهم أن يتلقوا الدعم من تبرعات العامة، والتي جُمعت في الغالب من المقاومين السلميين. شكّل هذا ضغطاً شديداً على الهنود البريطانيين، ولكن في رأيي فقد كانوا على مستوى الحدث. النضال ما زال مستمراً ولا يُعرف متى ستكون النهاية. على الرغم من ذلك، بعضنا على الأقل يرى بشكل واضح أنّ المقاومة السلمية قادرة وسوف تنجح حيث يجب أن تفشل القوة الغاشمة. ونلاحظ أيضاً أنّ إطالة أمد الصراع كان بسبب ضعفنا، وبالتالي إلى اعتقاد تولد في ذهن الحكومة أنّنا لن نكون قادرين على تحمل استمرار المعاناة.

جئت برفقة صديق، لرؤية السلطات الإمبريالية لأعرض أمامهم الموقف، التماساً للإنصاف. نوه المقاومون السلميون أنّهم لن ينخرطوا في أي توسل للحكومة، لكنّ التفويض قد جاء بناءاً على طلب من الأعضاء الأضعف في المجتمع، وبالتالي فإنّه يمثّل ضعفهم بدلاً من قوتهم. ولكن في سياق ملاحظاتي هنا، لقد شعرت أنّه إذا أقيمت مسابقة عامة لمقال على أخلاقيات وفاعلية المقاومة السلمية، فإنّ من شأن ذلك أن يشهر الحركة ويجعل الناس يفكرون فيما يحدث. لكنّ صديقاً لي قد أثار مسألة أخلاقية فيما يتصل بالمقالات والمنافسة المقترحة، وهو يعتقد أنّ مثل هذه الدعوة ستتعارض مع الروح الحقيقية للمقاومة السلمية، وأنّها قد تعتبراً نوعاً من شراء الآراء. هل لي أن أسألك بالتفضّل عليّ برأيك حول أخلاقية هذا الموضوع؟ وإذا كنت ترى أنّه ليس هناك من حرج في الدعوة للمشاركة في مثل هذا العمل، وأريد أن أطلب منك أيضاً أن تعطيني أسماء أولئك الذين ينبغي عليّ التوجه إليهم للكتابة عن الموضوع.

هناك شيء آخر، والذي سيجعلني آخذ مزيداً من وقتك. وقعت تحت يدي عبر صديق، نسخة من الرسالة الموجهة منك إلى أحد الهندوسيين عن الاضطرابات الحالية في الهند. والتي يبدو أنّها تمثّل وجهات نظرك حول هذا الموضوع. ويعتزم صديقي، وعلى نفقته الخاصة، طباعة 20،000 نسخة منها وتوزيعها والعمل أيضاً على ترجمتها. ولكنّنا لم نتمكن من تأمين النسخة الأصلية، ونحن لا نشعر بأحقيتنا في طباعتها، كما أنّنا غير متأكدين من دقّة النسخة وحقيقة كونها رسالتكم بالفعل. سمحت لنفسي إرفاق نسخة من النسخة، وسوف أقدّر تعطفكم بإبلاغي إن كانت هي رسالتكم، وفيما إذا كانت النسخة دقيقة، وإن كنت توافق على نشرها بالطريقة المذكورة أعلاه. إذا كنت ستضيف أي شيء آخر على الرسالة أتمنى أن تفعل ذلك. وسأتجرأ أيضاً لأقدم اقتراحاً.

في فقرتك الختامية يبدو أنّك تريد ثني القارئ عن الايمان بالتناسخ (التقمّص). أنا لا أعرف (إذا لم يكن وقاحة في ذكري لهذا) ما إذا كنت قد تمعنت في المسألة. التناسخ أو التقمص هو اعتقاد مبجّل للملايين في الهند، بل في الصين أيضاً. فيما يخص الكثيرين يمكن أن نقول أنّها مسألة خبرة بالنسبة لهم، ولم تعد مسألة تقبّل أو رفض أكاديمي. وتفسر إلى حد معقول العديد من أسرار الحياة.

لقد كانت عزاءاً لبعض المقاومين السلميين الذين جربوا معتقلات الترانسفال. لا أسعى بكتابتي هذه إلى إقناعكم بحقيقة المذهب، ولكن لأطلب منكم إذا كان من الممكن إزالة كلمة “التناسخ” من بين الأمور الأخرى التي حاولت ثني قارئك عنها. في الرسالة المذكورة أيضاً نقلت إلى حد كبير عن كريشنا وأعطيت إشارات مرجعية. وأودّ شاكراً لو تعطيني عنوان الكتاب الذي اقتبست منه.

أعلم أنّني قد أزعجتك برسالتي هذه. وأنا أدرك أنّ أولئك الذين يحترمونك ويسعون لمتابعتك لا يملكون الحق في التعدي على وقتك، وإنّ من واجبهم الامتناع عن التسبب بالمتاعب لك بقدر الإمكان. ولكن أنا، على كل حال، وكغريب تماماً عنك، أخذت الحرية في توجيه هذه المراسلات لخدمة الحقيقة، ولكي نحصل على نصيحتك في مشاكل، جعلت عمل حياتك أن تحلها.

مع فائق احترامي،
سأظل خادمك المطيع،
م. ك. غاندي.


ياسنايا بوليانا
7 أكتوبر 1909

إلى م. ك. غاندي
الترانسفال

تلقيت للتو رسالتك المثيرة للاهتمام، والتي غمرتني بسعادة كبيرة. نرجو من الله أن يساعد جميع إخواننا الأعزاء وزملاء العمل في الترانسفال. هذا الصراع بين الوداعة والوحشية، وبين التواضع والحب من جانب، والغرور والعنف من جهة أخرى، شعرنا به بشكل واضح، خاصة في التناقضات الحادة بين الواجبات الدينية وقوانين الدولة والتي ظهرت في الاستنكاف الواعي عن تأدية الخدمة العسكرية. مثل هذه الاعتراضات تحصل في كثير من الأحيان.

كنت قد كتبت “رسالة إلى هندوسي”، وأنا في غاية السرور لأنّه تمت ترجمتها (إلى اللغة الإنجليزية). سوف يرسل عنوان الكتاب عن كريشنا إليكم من موسكو.

أمّا فيما يتعلق بالتقمّص، من جهتي، فإنني لن أغير شيئاً بهذا الشأن، فكما يبدو لي، فإن الاعتقاد بالتقمّص لن يكون قادراً على إرساء الجذور العميقة وكبح جماح البشرية، وإنّما الاعتقاد في خلود الروح والإيمان بالحقيقة المقدّسة والحب هو الذي سيفعل ذلك. بالطبع ،أحب أن أسايرك، إن كنت ترغب بذلك، لحذف تلك الفقرات المعنية. وسوف أكون في غاية السرور للمساعدة في طبعتك الخاصة. إنّ نشر وتداول كتاباتي، وترجمتها إلى لهجات هندية، لن يجلب لي سوى السعادة.
التساؤل بشأن حقوق النشر المالية لا ينبغي أن نسمح له بالظهور في مثل هذه المسائل الدينية.

لك تحياتي الأخوية ويسرني أنّنا أصبحنا على تواصل شخصي.

ليو تولستوي


فندق قصر وستمنستر،
4، شارع فيكتوريا،
لندن W.C
1909/10/11

سيدي العزيز،

أرجو أن تتقبل شكري على خطابكم المسجّل المتعلق بـ “رسالة إلى هندوسي”، بالإضافة للمسائل التي تناولتها في رسالتي لك.

وكوني سمعت عن تراجع صحتك امتنعت عن طلب إرسال إشعار بالاستلام، كي أجنبك مشقة إرساله، مع معرفتي بأن التعبير كتابياً عن امتناني كان إجراءاً شكلياً لا لزوم له. ولكنّ السيد إيلمر مود الذي تمكنت من لقائه، أكّد لي بأنّك تتمتع في الواقع بصحة طيبة، وأنك تحضّر رسائلك بلا انقطاع وبشكل منتظم كل صباح. كان هذا خبراً سعيداً للغاية بالنسبة لي وشجعني على الاستمرار بالكتابة إليكم إزاء مسائل هي، كما أعلم، ذات أهمية كبيرة وفقاً لدراساتكم.

أستسمحك بأن أرسل لك مرفقاً نسخة من الكتاب الذي كتبه أحد الأصدقاء، وهو رجل إنكليزي، يقيم حالياً في جنوب أفريقيا، وعلى اتصال مباشر معي، لدرجة أنّ لديه تأثير على الصراع الذي ارتبطت به وكرست حياتي له. وبما أنّي حريص على اشراك اهتمامك وتعاطفك الفعّال فرأيت أنّ إرسال الكتاب لن يكون خروجاً عن السياق.
في رأيي، نضال الهنود في الترانسفال هو الأعظم في العصور الحديثة، وكان على قدر من المثالية في نوعية الهدف وفي الطرق المعتمدة للوصول إليه. أنا لم أعلم عن صراع، لا يسعى المشاركون فيه للحصول على أيّ منفعة شخصية في نهايته، وخمسون في المائة من الأشخاص المتضررين تعرضوا لمعاناة كبيرة ولمحاكمات في سبيل المبدأ.

لم أستطع إشهار النضال بقدر ما كنت أودّ. أنت تتحكم، ربما، بأوسع نطاق من الجماهير اليوم. فإذا كنت راضياً عن الحقائق التي ستجدها معروضة بشكل واضح في كتاب السيد دوك، وإذا كنت ترى أنّ الاستنتاجات التي وصلت إليها تبررها الوقائع، هل لي أن أسألك لتستخدم نفوذك الخاص للتأثير بأيّ شكل من الأشكال تراه مناسبا للترويج للحركة؟ إذا نجحت، فإنّه لن يكون فقط انتصارا للدين والحب والحقيقة على الكفر، والكراهية، والباطل ولكن من المرجّح جداً أن يكون مثالاً يحتذى للملايين في الهند وللناس في أنحاء العالم، والذين قد يكونون خاضعين للاضطهاد، وبالتأكيد سيقطعون شوطاً كبيراً نحو تفكيك حزب العنف، على الأقل في الهند. إذا استطعنا الصمود للنهاية، وأعتقد أنّنا سنفعل، فلا يراودني أدنى شك على نجاحنا في النهاية، وأنّ تشجيعكم لنا بالطريقة التي اقترحتُها يمكن أن يعزّز مسعانا.
المفاوضات التي تجري لتسوية هذه المسألة سقطت عملياً، سأعود إلى جنوب أفريقيا هذا الأسبوع جنباً إلى جنب مع زملائي، دون خوف من التوقيف. وأودّ أن أضيف أنّ ابني قد انضم إليّ بسعادة في النضال ويخضع الآن لعقوبة السجن مع الأشغال الشاقة لمدة ستة أشهر، وهذا هو السجن الرابع له في سياق النضال.
إذا تعطفّت عليّ بالرد على هذه الرسالة، هل لي أن أطلب منك أن تعنون ردّكم لي إلى: جوهانسبرغ، س. آ. صندوق بريد. 6522.

على أمل أن تصلكم رسالتي هذه وأنتم في صحة جيدة.

دائماً وأبداً،
خادمك المطيع.
م. ك. غاندي


جوهانسبرغ،
4 أبريل، 1910

سيدي العزيز،
لعلكم تتذكرون أنّني قد كتبت لكم من لندن حيث توقفت مؤقتاً. كتابع مخلص، أرسل لك مرفقاً كتيب موجز كنت قد كتبته. لقد ترجمت كتاباتي الخاصة من الغوجاراتية (لغتي الخاصة).

واللافت هو أنّ كتابي الأصلي صادرته الحكومة الهندية. لذلك كنت في عجلة من أمري لنشر هذه الترجمة. أخشى أنّني أثقل عليك، ولكن إذا سمحت صحتك وكان لديك الوقت لتصفّح كتيبي، عندها لا أريد أن أعبر كم سأكون ممتناً لنقدك له. أنا أرسل أيضاً بضع نسخ من “رسالة إلى هندوسي” الذي سمحت لي بنشره. كما سيتم ترجمة هذه الرسالة إلى اللهجة الهندية.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام،
م. ك. غاندي.


8 مايو، 1910

صديقي العزيز،
لقد تلقيت للتو رسالتكم وكتابكم، “الحكم الذاتي للهند”.

لقد قرأت كتابك باهتمام كبير، لأنّني أعتقد أنّ المسألة التي تناولتها ليست أمراً هاماً للهنود فقط، ولكن للبشرية قاطبة. لا أستطيع العثور على رسالتك الأولى، ولكن من خلال الحديث مع دوك حول شخصك، استطعت أن أعرف عنك الكثير من خلال سيرتك الذاتية التي جذبتني وأعطتني فرصة لمعرفتك وفهمك بصورة أفضل. أنا لست بصحة جيدة حالياً، لذلك لا أستطيع أن أكتب إليك عن كل المسائل المتعلقة بكتابك وبنشاطاتك بشكل عام، والتي أقدّرها جداً. ولكنّي سأكتب لك عندما أستعيد صحتي.

صديقك وشقيقك،
ليو تولستوي.


دائرة القضاء، 21 – 24
جوهانسبرج. 15 أغسطس 1910

من المحامي م. ك. غاندي

إلى السيد ليو تولستوي.
سيدي العزيز،

اسمح لي أن أعبر لك عن عميق امتناني للرسالة المشجّعة والوديّة التي أرسلتها لي في الثامن من مايو الماضي. وأقدّر كثيراً موافقتك بشكل عام للأفكار التي وضعتها في الكتيب الخاص بي، “الحكم الذاتي للهند”. وإذا توفر لديك بعض الوقت، فإنّني أتطلع إلى انتقاداتك التفصيلية للكتيب والتي – وببادرة لطف منك – وعدتني أن تقوم بها في رسالتك.

وقد كتب إليكم السيد كالينباخ عن “مزرعة تولستوي”. أنا والسيد كالينباخ أصدقاء مقربون منذ سنوات عديدة، وبإمكاني القول أنّه قد مرّ بمعظم التجارب التي كنت قد وصفتَها بكل وضوح في كتابك “اعترافاتي”. لم يتأثر السيد كالينباخ بعمق لكتاب ما مثلما تأثّر بكتابك هذا. وكان له الحافز لبذل المزيد من الجهود كي يرتقي إلى مستوى المثل العليا التي حملتها أفكارك للعالم في هذا الكتاب، ولذلك بادر بعد التشاور معي وقام بتسمية المزرعة باسمك تكريماً لأفكارك.

واسمح لي أن أرسل لك أعداداً من مجلة “الرأي الهندية” تشرح لك بشكل مفصّل موقفه الكريم هذا في السماح لعدد من المقاومين السلميين بالعيش في المزرعة، وستعطيك هذه المجلة معلومات مفصّلة عن الموضوع. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بكل هذه التفاصيل، وأفعل ذلك لأنني تلمّست رغبتك الشخصية في معرفة المزيد عن النضال اللاعنفي الذي يجري في الترانسفال.

سأظل دائماً
خادمك المخلص.
م. ك. غاندي


كوتشيتي، السابع من سبتمبر، 1910

إلى المهاتما غاندي،
جوهانسبرغ، الترانسفال، جنوب أفريقيا

أحيطك علماً أنّني قد استلمت مجلة “الرأي الهندية” التي أرسلتها لي، وأنا سعيد جداً لمعرفة أنّ كل المكتوب فيها يتحدث عن المقاومة اللاعنفية. وكم أتمنى لو أنّني أستطيع أن أنقل إليكم الأفكار التي أثارتها في نفسي قراءة تلك المواد في المجلة.

كلما عشت أكثر – وخاصة أنني الآن في سنّ أقترب فيه من الموت – كلما شعرت بميل أكثر للتعبير للآخرين عن مشاعري التي تحرك وجودي بقوة، والتي أظنّها برأيّ الخاص، ذات أهمية كبيرة. إنّ هذا الذي يدعوه البعض مقاومة لاعنفية، هو في واقع الأمر شيء آخر، إنّه الانضباط الناتج عن الحب الذي لم يتشوه بسبب التفسيرات (الدينية والعلمية) الكاذبة. فالحب هو طموح بالتواصل والتضامن مع النفوس الأخرى، ويشكّل طموح الحب هذا مصدراً ومحفّزاً لكل الأنشطة النبيلة. إنّ الحب هو القانون الأسمى والفريد من نوعه في الحياة البشرية والذي يشعر به الجميع في أعماق نفوسهم. ونجده يتجلّى بكل وضوح في نفوس الأطفال الرضّع. ويشعر به الإنسان طالما لم تغلّف قلبه وتُعميه مختلف العقائد الباطلة في هذا العالم.

وقد أُعلن قانون الحب هذا أيضاً من قبل جميع الفلسفات الهندية والصينية والعبرية واليونانية والرومانية. وأعتقد أنّ المسيح قد أعرب عنه بوضوح منقطع النظير، والذي قال أنّ قانون الحب هذا يحتوي جميع القوانين والأنبياء. لكنّه فعل أكثر من ذلك؛ فقد حذّر من التشوه الذي يمكن أن يتعرض له هذا القانون، وحدد مباشرة الخطورة التي تنتج عن مثل هذا التشوّه، والذي يراه الأشخاص ذوو المصالح الدنيوية طبيعياً جداً. ويكمن الخطر بالضبط عندما نسمح للذات بالدفاع عن تلك المصالح بواسطة العنف؛ وهذا يعني، كما أعرب عنه المسيح، الردّ على المصيبة بمصائب أكبر، واستخدام العنف لاسترداد الأشياء التي أُخذت منّا بالعنف، وهكذا دواليك (نصبح في حلقة مفرغة). وقد علم المسيح أيضاً، مثلما يجب أن يعلم جميع البشر الذين يفكرون بمنطق، أنّ استخدام العنف يتعارض تماماً مع الحب، الذي هو القانون الأساسي للحياة. كان المسيح يعلم أنّه وبمجرد قبول استخدام العنف ولو لمرة واحدة – فإنّ قانون الحب سيعطي نتائج عقيمة بلا جدوى. وهذا يعني أنّ قانون الحب سيزول من الوجود. وقد بنيت الحضارة المسيحية كلها، الرائعة جداً من الخارج، وتربّت على سوء الفهم والتناقض الصارخ العجيب هذا، بإرادة واعية أحياناً، وبدون وعي في كثير من الأحيان.

في واقع الأمر، بمجرد أن تضع المقاومة قانون الحب جانباً، ينتفي تماماً قانون الحب ولا يبقى له أيّ وجود، عندها سيبقى قانون واحد في هذا الوجود فقط وهو قانون العنف، الذي يعطي الحقّ للأقوياء فقط. وهكذا كان يعيش المجتمع المسيحي خلال القرون التسعة عشرة الماضية. وهذا ما حدث في واقع الأمر، فقانون العنف هو من كان ينظم حياة المجتمع لجميع الناس طوال ذلك الوقت. والفارق بين المثل العليا للشعوب المسيحية وتلك التي في الدول الأخرى يكمن فقط في أنّ: المسيحية قد أعربت عن قانون الحب بكل جلاء ووضوح، بشكل منقطع النظير لم يتم التعبير عنه في أيّ مذهب ديني آخر. إنّ العالم المسيحي قد قبل رسمياً قانون الحبّ هذا، ولكنّهم في الوقت نفسه، قد سمحوا بتوظيف واستخدام العنف، ولذلك ساد العنف وشيّد حياتهم كلها.

وبالتالي، فإن الشعوب المسيحية تعيش في حالة من التناقض المطلق بين أعمالهم ومهنهم وبين المثل والمبادئ التي تحكم حياتهم؛ التناقض بين قانون الحب الذي يعترف به قانون الحياة، وقانون العنف الذي أُقحم بشكل لا فكاك منه في أقسام مختلفة من الحياة؛ مثل الحكومات والمحاكم والجيش وغيرها، تلك الأماكن التي تُقدّر وتُشيد بالعنف. وقد تطوّر هذا التناقض مع تطور الحياة الداخلية للعالم المسيحي، وحقق ذروته في الأيام الأخيرة.

يطرح السؤال نفسه في الوقت الحالي بوضوح على النحو التالي: إما أنّنا يجب أن لا نعترف بأيّ انضباط، سواء ديني أو أخلاقي، وأن نسترشد في تنظيم الحياة فقط من خلال قانون القوة والعنف، أو أنّنا يجب أن نلغي تماماً جميع الضرائب التي نحصّلها بالقوة وجميع المؤسسات القضائية والشرطة وقبل كل شيء الجيش.
في فصل الربيع هذا، وفي فحص لمادة الدين في مدرسة ثانوية للبنات في موسكو، كان أستاذ التعليم المسيحي وكذلك الأسقف يمتحنان الفتيات الصغيرات بالوصايا العشرة للمسيحية، وعلى الأخص بالوصية السادسة “لا تقتل”. وعندما تلقّى الفاحص الأسقف إجابة جيدة، انتقل إلى السؤال التالي: هل “القتل” المنصوص في القانون المقدّس مطلق ويشمل جميع الحالات؟ وكان ردّ هؤلاء الفتيات الصغيرات قليلات الحظ منحرفاً مثلما لقّنهم وأراد لهم المعلم أن يجيبوا: لا، ليس دائماً، فالقتل يُسمح به خلال الحرب ولتنفيذ حكم الإعدام بالمجرمين.

لكن إحدى تلك الفتيات القليلات الحظ، (وهذه القصة حقيقية وليست من محض الخيال، رواها لي أحد شهود العيان) وبعد أن سأل الأسقف نفس السؤال، “هل القتل دائماً جريمة؟” أجابت الفتاة وهي متأثرة بعمق، ووجهها قد احمرّ خجلاً: “نعم، دائما”. وقد أجابت على جميع الأسئلة المعقّدة التي اعتاد الأسقف أن يسألها، بإيجاب وبقناعة راسخة: “يحظر القتل دائماً في العهد القديم، فضلاً عن أنّ المسيح الذي لم يحرّم فقط القتل، ولكنّه حرّم ممارسة كل أنواع الشر ضد جيراننا.” وعلى الرّغم من كل الموهبة الخطابية التي يتمتع بها الأسقف وكل العظمة التي كان قد فرضها، إلاّ أنّه كان ملزماً بالتراجع أمام حجّة الفتاة التي خرجت من النقاش منتصرة.
نعم، بإمكاننا أن نناقش في مجلاتنا التقدم في مجال الطيران ومثله من الاكتشافات الأخرى وعلاقاتنا الدبلوماسية المعقدة ومختلف أنواع النوادي والتحالفات ونناقش ما يسمى بالإبداعات الفنية وغيرها…إلخ. أمّا في الموضوع الذي أكّدت عليه الفتاة، فسنلوذ جميعاً في صمت مُطبق. لكنّ الصمت غير مُجدٍ في مثل هذه الحالات، لأنّ كلّ واحد من هذا العالم المسيحي يملك الشعور نفسه، بدرجة أكثر أو أقل التباساً من تلك الفتاة.

إنّ الاشتراكية والشيوعية والفوضوية وجيش التحرير وتزايد معدلات الجرائم والبطالة والكماليات السخيفة للأغنياء التي لا حدود للجدال فيها، والبؤس المرعب للفقراء وتزايد عدد حالات الانتحار بشكل رهيب، كلّ هذه الأمور هي علامات على التناقض الداخلي الذي يجب أن يكون هناك ولا يوجد له حل. وبدون أدنى شك، لا يمكننا حلّ هذا التناقض إلاّ من خلال قبول “قانون الحب” ونبذ كلّ أنواع العنف. ونتيجة لذلك فإنّ عملك في الترانسفال، والتي يبدو أنّها بعيدة عن مركز عالمنا هنا، هو أساسي والأكثر أهمية بالنسبة لنا، لأنّك تقوم بتوفير البرهان العملي الأثقل الذي يستطيع العالم أجمع أن يتشاركه ويستفيد من نتائجه، ليس المسيحيون فقط وإنّما جميع شعوب العالم.

أعتقد أنك ستشعر بالسعادة عندما تعلم أنّه معنا في روسيا حركة مماثلة تتطور بسرعة أيضاّ لشكل من أشكال رفض الخدمة العسكرية، وهي تزداد عاماً بعد عام. ربما يكون أعداد المشاركين عندك في حركة المقاومة اللاعنفية قليلاً، كذلك أعداد المشاركين في حملة رفض الخدمة العسكرية الموجودة هنا في روسيا، إلاّ أنّ كل واحد منهما يؤكد الآخر ويثبت أنّ “الله معنا” “وأنّ الله أقوى من الإنسان.”

هناك تناقض صارخ بين “مفهوم الاعتراف” في المسيحية حتى في شكله المنحرف الذي يظهر بيننا نحن الشعوب المسيحية، وبين ضرورة الحفاظ على الجيوش وتجهيزها للقتل على نطاق واسع متزايد، وسيُظهرُ لنا نفسهُ عاجلاً أو آجلاً، وربما قريباً جداً، في عري تام. وسوف يؤدي بنا هذا إمّا إلى التخلي عن الدين المسيحي، والحفاظ على السلطة الحكومية أو إلى التخلي عن وجود الجيش وجميع أشكال العنف التي تدعم الدولة والتي هي ضرورية بدرجة ما للحفاظ على قوتها.

وبإمكاننا أن نرى هذا التناقض في جميع الحكومات وكذلك في الحكومة الروسية لدينا. ولذلك، وبروح المحافظة على البقاء الطبيعية لهذه الحكومات، فإنّها تقوم باضطهاد المعارضة، وبإمكانك أن تجد ذلك في روسيا وكذلك في مواد المجلة التي أرسلتها لي. وتكافح الحكومات هذا النوع من الحركات أكثر من أيّ نشاط آخر مضاد للحكومة، لأنّها تعرف تماماً من أيّ اتجاه يأتي الخطر الرئيسي الأكبر، ولذلك يدافعون عن أنفسهم بحماسة كبيرة في تلك المعركة، ليس فقط لمجرد أنّهم يريدون الحفاظ على مصالحهم، ولكن في الواقع إنّهم يقاتلون من أجل بقاءهم.

مع خالص احترامي.
ليو تولستوي


تم تحرير ونشر الرسائل ضمن كتاب الأستاذ ب. سرينيفاسا مورثي

منشورات لونغ بيتش

اترك تعليقاً