موتُ الحرب: قراءة لمعاني التوحيد والعدالة والديمقراطية في فكر جودت سعيد

يُعَدّ المفكر الإسلامي جودت سعيد (رحمه الله) أحد أبرز الأصوات المعاصرة التي حاولت تقديم قراءة جديدة للإسلام من زاوية السلم وضرورة إنهاء الصراعات، وهو يشتهر بمقولته الشهيرة عن “موت الحرب”. ففي نظره أنّ السلام ليس خيارًا جانبيًا أو قيمة ثانوية، بل هو جوهر الدين وغاية الرسالات الإلهية التي بُعث بها الأنبياء. ومن خلال كتاباته وأحاديثه، دافع جودت سعيد عن رؤيةٍ تدعو إلى تحرير مفهوم التوحيد من إطاره الميتافيزيقي الضيق، ونقله إلى أفق اجتماعي وسياسي يرتكز على العدالة والمساواة بين البشر. في هذا المقال المطوَّل، نحاول تسليط الضوء على مفهوم “موت الحرب” كما فهمه جودت سعيد، ونرصد أبعاده القرآنية والتاريخية والإنسانية.
أولًا: توحيد الله بين البُعد الميتافيزيقي والأفق الاجتماعي
1. التوحيد والتحرر من “الآلهة البشرية”
يرى جودت سعيد أنّ التوحيد، كما يطرحه القرآن، ليس مجرد قضية عقدية أو ميتافيزيقية بحتة؛ بل هو شأن اجتماعي وسياسي. فعندما يقول الله تعالى:
﴿تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]
فإنّ المعنى ليس حصرًا في الامتناع عن عبادة الأوثان أو القوى الغيبية، إنّما في منع “التأليه” البشري على الأرض؛ أي عدم تحويل أي إنسان إلى “إله” يمتلك امتيازات تسلب الآخرين حقوقهم وكراماتهم. فالمساواة في الأرض انعكاسٌ حقيقي للإيمان بإلهٍ واحد في السماء.
2. العدل مقصد الرسالات
يربط جودت سعيد بين مفهوم التوحيد القرآني ومقصد إقامة العدل بين الناس. يستدلّ بقول الله تعالى:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]
فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط والعدل في حياة البشر. فإذا حصل خللٌ في عدالة توزيع الثروات والفرص والحقوق، فستبقى الحروب والنزاعات وسفك الدماء هي النتيجة الحتمية.
3. القيمة العالمية للدين
يؤكّد جودت سعيد أنّه كلّما أصبح الدين علمًا وفهمًا وسلوكًا واقعيًا، صار عالميًا وقادرًا على مخاطبة الناس جميعًا بلغتهم المشتركة، لغة العقل والعدل. إنّ “توحيد الله” بالمعنى الاجتماعي يعني سعيًا مستمرًا لإنهاء الامتيازات الطبقية والقومية والسياسية، وما يتبع ذلك من أنظمة قهرٍ تجعل فئةً تستحوذ على الثروة والقوة وتُخضع غيرها. حينها تصبح “المثالية” واقعًا ملموسًا، ويصبح “الغيب” شهادةً تدرك بالعقل، ويغدو “الإنساني” إلهيًّا؛ لأنّ السنن الإلهية في الاجتماع البشري تعمل كقوانين الفيزياء في الكون.
ثانيًا: موت الحرب في منظور جودت سعيد
1. الحرب قرابين الجهل
يرى جودت سعيد أنّ الحرب، من منظورٍ تاريخيّ، لم تكن يومًا حلًّا فعليًّا لمشكلةٍ ما؛ بل لطالما كانت تفاقمًا للأزمات وفتحًا لأبوابٍ أوسع للدمار والخراب. ويشدّد على أنّ القوى الكبرى التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل لم تعد قادرة على خوض حربٍ شاملة دون أن تفني نفسها والعالم، فاتجهت بدلًا من ذلك إلى تسليح النزاعات الإقليمية واستغلال “جهل الجاهلين” وبيعهم الأسلحة. فالحروب ما هي إلّا “قرابين” تُقدّم على مذبح المصالح الضيقة والكراهية والجهل.
2. تاريخ الظالمين شاهدٌ على مآلهم
في قراءته لسنن التاريخ، يستشهد جودت سعيد بالآيات القرآنية الكثيرة التي تدعو للنظر في عاقبة الأمم الظالمة والطغاة عبر التاريخ. يقول الله تعالى:
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ﴾ [يوسف: 109]
﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 39]
إنّ هذا النظر التأملي في مسار الظالمين يثبت لنا أنّ القوة العسكرية والسطوة الأمنية لم تحمِ أحدًا من الانهيار حين يفقد المشروعية الأخلاقية والعدل. وحين يضرب المثال بسقوط الاتحاد السوفيتي أو هزيمة هتلر، يذكّر بأنّ هذه السنّة مستمرة؛ فلا أحد فوق القانون الإلهي في النهاية.
3. إعلان “موت الحرب”
إنّ قناعة جودت سعيد بـ”موت الحرب” تعني أنّ البشرية – بعد أن وصلت إلى مرحلة الرعب النووي وامتلاك أدوات الدمار الشامل – لم تعد قادرةً على خوض حروب كبرى لتصفية حساباتها، إذ لا منتصر في حربٍ نووية. ومع ذلك، لا يزال هناك من يعمد إلى إثارة النزاعات هنا وهناك لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. لذا، يصرّح بأنّ الحرب لم تعد وسيلةً مقبولة لأيّ نزاع، وأنّ عقل الإنسان – لو رجع إلى رشده وتاريخه – سيختار بالضرورة الطرق السلمية والديمقراطية لحل المشكلات.
ثالثًا: أزمة الأمم المتحدة وشرعية “حق النقض”
1. منطق المنتصرين وصناعة “الآلهة”
ينتقد جودت سعيد النظام العالمي الحالي الذي خرج من رحم الحرب العالمية الثانية، والذي وضع في يد الدول الكبرى حق النقض (الفيتو). إنّ هذا الامتياز يُعيد إلى الأذهان فكرة “الآلهة البشرية”: لا يمكن لأيّ قرار دوليّ أن يمرّ دون موافقة القوى العظمى، بما يجعل البشرية كلّها رهينةً لمصالح هؤلاء “الكبار”. ويشير سعيد إلى أنّه حتى لو انتصرت النازية والفاشية في الحرب، لم يكن ليكون هناك نظام أسوأ من الأمم المتحدة الحالية؛ إذ ستعطي الدول المنتصرة لنفسها الحق في تعطيل أيّ قرار.
2. تناقض الدعوة إلى الديمقراطية مع حق النقض
يرى جودت سعيد أنّه من المفارقة الكبرى أن تدعو بعض القوى الكبرى إلى “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية” بينما هي تصرّ على تثبيت حق الفيتو الموروث من زمن الحرب العالمية الثانية، والذي يتناقض صراحةً مع أبسط مبادئ المساواة واحترام رأي الأغلبية. إنّه تناقضٌ فاضحٌ يعمّق الفساد السياسي والدولي، وينسف المشروعية الأخلاقية لأيّ دعوة للديمقراطية العالمية.
3. إصلاح الأمم المتحدة
الحلّ الجذري من وجهة نظر سعيد هو “دمقرطة” الأمم المتحدة. فهو يطالب بتحويلها إلى كيانٍ أمميّ ديمقراطيّ حقيقيّ قائم على سلطات ثلاث: تشريعية وتنفيذية وقضائية، شأنه في ذلك شأن أيّ دولةٍ ذات نظامٍ ديمقراطيّ. وحينها فقط يمكن القول إنّ مفهوم “الشرعية” قد ترسّخ على المستوى العالمي، وإنّ “أمنية جميع الأنبياء” في عدلٍ وسلامٍ عالميّ قد بدأ يلوح في الأفق.
رابعًا: الإشادة بتجربة الاتحاد الأوروبي
1. الاتحاد الأوروبي كخطوة على طريق “كلمة السواء”
يضرب جودت سعيد المثل بالاتحاد الأوروبي بوصفه نموذجًا متقدّمًا، حيث تحقّق مستوى من الوحدة والسلام بين دول خاضت فيما مضى حروبًا دموية طويلة (حرب المئة عام، الحربين العالميتين…). إنّ قبول تلك الدول بالجلوس على طاولة الحوار وتوحيد مصالحها بشكلٍ سلميّ، يعكس تجربةً تاريخيةً مهمّة: فهذه الدول لم تتوحّد بحدّ السيف ولا بغزوٍ عسكري، بل بإرادة سياسية وفوائد مشتركة، منطلقةً من مفهوم “لا يخسر أحد ويربح الجميع”.
2. الدرس التاريخي من حروب أوروبا
مرّت أوروبا بمراحل مظلمة من الحروب الدينية والمذهبية والقومية، وقدّمت الملايين من الضحايا قرابين على مذابح التعصّب. لكن ما إن استفادت الشعوب الأوروبية من دروس تلك الحروب وألمها، حتى التفتت إلى أسلوب العقل والتعاون والانتخاب والشرعية، فنجحت في بناء “بيت أوروبي مشترك” يضمن الحرية وحقوق الإنسان، ويضع حدًّا لاستخدام القوة في حل الخلافات. هذه التجربة – رغم قصورها – تُعدّ شديدة الأهمية في مسيرة الوعي الإنساني.
3. الديمقراطية: أعظم ما صنعه الإنسان
يكرّر جودت سعيد أن الإنسان هو أعظم ما خلق الله، وأن الديمقراطية – التي تعني في جوهرها الاحتكام إلى الإقناع لا الإكراه، وحكم الأغلبية مع احترام حقوق الأقلية – هي أعظم ما توصل إليه البشر. إنّ جوهر الديمقراطية، وفقًا لجودت سعيد، هو الإيمان بأن العنف ليس الحلّ لمشكلتنا، بل “عدّ الأصوات” والإقناع. وهذه النقلة في الوعي السياسي هي بذرة موت الحرب، ونبتة العالم الجديد الذي لن يضطر لرفع السلاح في كل نزاع.
خامسًا: مسؤولية المثقفين والعلماء والدعاة
1. كسر الصمت والتبعية
يشدّد جودت سعيد على أنّ السكوت على الفساد المحلي والدولي هو “نفاق سياسي وديني وثقافي”؛ فأصحاب الامتيازات لا يتخلّون عن امتيازاتهم طواعية. من هنا تبرز ضرورة دور المثقفين والعلماء والدعاة في الكشف عن مواطن الظلم في العلاقات الدولية، وفي نقد الاصنام السياسية التي نتعبّدها تحت قبة “حق النقض” في مجلس الأمن.
2. إعادة الاعتبار لمبدأ “كلمة السواء”
إنّ أعظم مهمةٍ أمام الدعاة والساسة هي نشر ثقافة “كلمة السواء” التي تدعو إلى إلغاء “الأرباب البشرية”. هذا يتطلّب جهودًا تربوية وفكرية عميقة تنطلق من المدارس والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام. بذلك تتحوّل قيم السلام والعدل والمساواة إلى وعيٍ جماعيّ وثقافةٍ سائدة، لا إلى شعاراتٍ سياسيةٍ زائفة.
3. دمقرطة العالم
إنّ التحدّي الأكبر أمام البشرية يتمثّل في تحويل “الدولة القطرية” إلى “عالم ديمقراطي كبير”، فلا ينبغي أن نظلّ متقوقعين في أطرنا الضيقة، لأن العالم كلّه بات مترابطًا من خلال التكنولوجيا والاقتصاد والأسواق. إنّ جودت سعيد يدعو إلى “دمقرطة العالم” وصولًا إلى نظامٍ عالميّ ينعم فيه الجميع بالحرية والعدالة، وتنتفي فيه دواعي الحروب.
ختاماً
في رؤية جودت سعيد، تتلاقى قيم التوحيد والعدل والسلم في بوتقة واحدة، لتحرّر الدين من سجنه الميتافيزيقي الضيق وتعيده إلى الساحة الاجتماعية والسياسية. إنّ “موت الحرب” في فلسفته ليس إعلانًا طوباوياً، بل خلاصة تاريخية تشير إلى أنّ البشرية بلغت مرحلةً لم تعد تحتمل فيها حربًا شاملة، وإلى أنّ حصر أدوات السيطرة والعقاب في أيدي دولٍ معدودةٍ هو ضربٌ من “الربوبية البشرية” التي ما أنزل الله بها من سلطان.
يصرخ جودت سعيد في برّية الواقع الدولي، حيث لا يزال “حق النقض” قائمًا، وحيث تظلّ القوة العسكرية تُعبد في مجلس الأمن الدولي، فيقول: “يا عالم الكبار، لستم على شيء حتى تقبلوا بتحويل الأمم المتحدة إلى هيئة ديمقراطية حقيقية.” إنّ رسالته واضحة: لا خلاص من الخوف والقلق والبؤس والمعاناة إلّا بالعدل العالمي، ولا يمكن أن تنمو الحضارة إن بقيت تُدار بعقلية الهيمنة والقوة.
وبينما يستحضر في تحليله شواهد القرآن وآيات الآفاق والأنفس، يستلهم أيضًا دروس التاريخ التي تثبت زوال الطغاة وتؤكد صعود الديمقراطيات والسلم. وفي نهاية المطاف، يجمعنا جودت سعيد على كلمة سواء: أن لا يتّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، وأن يظلّ الإنسان – بكل عقله وقدرته على الإبداع – أكبر شاهدٍ على إمكانية بناء عالمٍ تسوده العدالة والمساواة. هنا تحديدًا يموت منطق الحرب، وينبثق فجر السلم الذي طالما نادى به الأنبياء والفلاسفة والمصلحون عبر التاريخ.
المرجع: www.jawdatsaid.net
تم كتابة المحتوى بواسطة تشات جي بي تي