من قنابل الدمار إلى وسائل الإطفاء: قراءة نقدية في تحويل ميزانيات الحروب إلى مشاريع مكافحة الحرائق

تواجه البشرية تحدياتٍ بيئية واجتماعية عديدة في القرن الحادي والعشرين، من أبرزها تصاعد وتيرة الحرائق الهائلة في الغابات والمناطق الحضرية، وما يرافقها من خسائر بشرية واقتصادية وبيئية جسيمة. وفي المقابل، تستمر ميزانيات التسليح العالمية في الارتفاع عامًا بعد عام، إذ تُنفق مليارات الدولارات على تطوير الأسلحة والتقنيات العسكرية لغايات الدمار والقتل. ومن هذه المفارقة تنبثق تساؤلاتٍ أخلاقية وعملية مهمة:
هل يمكن استخدام القنابل أو المواد المتفجرة المصممة لامتصاص الأكسجين أو التأثير على انتشار النار بشكلٍ مفيد لإطفاء الحرائق؟
ماذا لو تم توجيه جزءٍ كبير من الميزانيات العسكرية الضخمة نحو تطوير حلول مبتكرة لإخماد الحرائق ومكافحة الكوارث البيئية؟
هل يمكن اعتبار كثرة الحرائق وكوارثها بمثابة “عقاب” للدول التي تُصدّر الحروب والدمار، بسبب عدم استثمارها الكافي في البيئة وتقنيات الوقاية من الحرائق؟
في هذه الأطروحة، سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات بصورة مفصلة، مع الاعتماد على أحدث الإحصائيات المتوفرة والمعلومات العلمية عن التقنيات المستخدمة في إخماد الحرائق، إضافة إلى تحليلٍ اجتماعي واقتصادي لأثر تحويل ميزانيات التسلّح نحو مجالات التنمية البيئية والبحث العلمي.
المحور الأول: فكرة استخدام القنابل التي تُفرِغ الهواء لإطفاء الحرائق
1.1 المفهوم التقني للقنابل التي “تُفرغ” الهواء
هناك خلط شائع بين القنابل التقليدية وأنواعٍ خاصة من المتفجرات مثل “القنابل الفراغية” (Thermobaric Bombs) أو ما يُعرف أحيانًا باسم “قنابل الوقود–الهواء” (Fuel–Air Explosives). هذه القنابل لا تُفرغ الهواء بالمعنى الحرفي، بل تعتمد على مبدأ خلط وقودٍ سائل أو غازي مع الهواء المحيط لتكوين سحابةٍ شديدة الانفجار. في اللحظة التي ينفجر فيها هذا الخليط، يحدث فراغٌ نسبي للحظات نتيجة استهلاك الأكسجين في المنطقة المحيطة، ثم تتولد موجة حرارةٍ وضغط هائلة. لذلك قد يُعتقد خطأً أنها تُحرم النار من الأكسجين، لكنها فعليًا تُحدث موجةً حرارية تصاعدية في البداية.
أما إذا نظرنا إلى احتياجنا الحقيقي لإطفاء الحرائق، فإن الهدف هو خفض درجة الحرارة أو منع وصول الأكسجين أو الوقود للهب، وهذا يختلف في طبيعته عن الانفجار الحراري الذي تسببه القنابل الفراغية. بل قد يؤدي الانفجار إلى انتشار ألسنة اللهب لمناطق أخرى نظرًا للضغط الهائل.
1.2 إمكانية تطوير قنابل مخصصة لإطفاء الحرائق
رغم وجود دراساتٍ محدودة حول تطوير “مواد مُتَفجرة” بإمكانها تفريغ الأكسجين من محيط النار أو خفض الحرارة بشكلٍ مفاجئ، فإن تطبيقها على نطاقٍ واسع لإطفاء حرائق الغابات أو المدن غير عملي لعدة أسباب:
عدم السيطرة على موجة الانفجار: أي متفجر يخلق موجة ضغطٍ وحرارة قد تدمر المباني والنباتات والبُنى التحتية، فضلًا عن خطره على السكان والفرق البشرية المكافحة للحرائق.
انتشار المواد السامة: استخدام مركباتٍ كيميائية في متفجراتٍ لإطفاء النيران قد ينشر مركبات ضارة بالبيئة وبالصحة العامة.
الصعوبة اللوجستية: التحكم بزاوية الإلقاء وتحديد المساحة المستهدفة بدقة لإخماد حريقٍ واسع جدًا، فضلًا عن التكلفة المرتفعة، يجعل من هذه الفكرة غير صالحة كحلٍّ عملي.
1.3 بدائل تقنية معروفة للإطفاء
عوضًا عن القنابل، تعتمد أنظمة إخماد الحرائق المتطورة على وسائل مثل:
المواد الرغوية (Foam): تُستخدم في حرائق المنشآت الصناعية وحرائق الوقود.
المواد الكيميائية الجافة (Dry Chemicals): مثل بودرة الفوسفات أحادي الأمونيوم (Monoammonium Phosphate) أو ثنائي أوكسيد الكربون (CO₂) في المطافئ اليدوية.
القاذفات الجوية بالمياه أو المروحيات: تحمل خزاناتٍ ضخمة من المياه أو المواد الكيميائية المضادة للحرائق (Fire Retardants)، ويتم إلقاؤها على مناطق الحريق.
أنظمة التبريد والرش الآلي: في المدن والمصانع.
كل هذه الأنظمة أكثر أمانًا وفعالية في حصر النار وتخفيف حرارتها ومنع انتشارها مقارنةً بفكرة قنبلةٍ تفريغية.
المحور الثاني: الميزانيات العسكرية وعلاقتها بمكافحة الحرائق
2.1 حجم الإنفاق العسكري العالمي
وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، بلغ الإنفاق العسكري العالمي حوالي 2.24 تريليون دولار عام 2022. وتشترك خمس دول في صدارة هذا الإنفاق هي: الولايات المتحدة، الصين، الهند، المملكة المتحدة، وروسيا. تُنفِق الولايات المتحدة وحدها ما يفوق 800 مليار دولار سنويًا على وزارة الدفاع (البنتاغون)، مع تخصيص جزءٍ كبيرٍ لهذه الميزانية لبرامج تطوير الأسلحة والتقنيات العسكرية الحديثة.
2.2 تكلفة الأضرار الناجمة عن الحرائق
في المقابل، تتزايد سنويًا التكلفة الاقتصادية الهائلة لحرائق الغابات والحرائق الكبرى في المدن. على سبيل المثال:
حرائق كاليفورنيا (2020): قُدّرت الخسائر الاقتصادية بحوالي 12 – 20 مليار دولار بحسب تقديرات شركات التأمين.
حرائق أستراليا (2019-2020): خلّفت أضرارًا قُدّرت بأكثر من 100 مليار دولار في الاقتصاد الأسترالي، فضلًا عن حرق 18.6 مليون هكتار من الأراضي ونفوق ملايين الحيوانات البرية.
حرائق اليونان وتركيا (2021): تسببت في خسائر بالمليارات وتدمير أجزاء كبيرة من الغابات والمنازل وتشريد سكان المناطق المنكوبة.
لو تَوفّر جزءٌ بسيطٌ من الإنفاق العسكري العالمي، وتم توجيهه لأبحاث تطوير مواد ومعدات مكافحة الحرائق، وتعزيز الأنظمة التوقعية والوقائية (مثل أنظمة الإنذار المبكر والمراقبة بالأقمار الصناعية)، لكان بالإمكان الحد من هذه الخسائر وتقليل الضحايا والآثار البيئية السلبية.
2.3 تحويل الاستثمارات العسكرية نحو التقنيات البيئية
من الناحية النظرية، لو تم تحويل نسبة 10% فقط من الموازنات العسكرية الضخمة إلى مشروعات البحث العلمي المتعلق بمكافحة الحرائق والوقاية منها، فإن ذلك قد يحقق:
- تمويل أبحاث متقدمة لتطوير روبوتاتٍ أو طائراتٍ بدون طيار متخصصة في إخماد الحرائق.
- دعم برامج زراعة الغابات في المناطق التي تعرضت للحرائق، وبالتالي إعادة تأهيل النظم البيئية.
- تعزيز نظم الإنذار المبكر لمراقبة درجات الحرارة والرطوبة وسرعة الرياح، مما يساعد في توقع الحرائق والحد من انتشارها.
مثال تقديري: إذا كانت الولايات المتحدة تنفق نحو 800 مليار دولار سنويًا على الدفاع، فإن 10% من هذه الميزانية تعادل 80 مليار دولار سنويًا. هذا المبلغ يكفي لتمويل مشاريع ضخمة لإدارة الموارد المائية، وتطوير أنظمة حديثة لمكافحة الحرائق على مستوى العالم، وليس في أمريكا وحدها.
المحور الثالث: البُعد الأخلاقي والفلسفي لإعادة توجيه الإنفاق من الحرب إلى البيئة
3.1 التساؤل الأخلاقي في استخدام الأسلحة
يرى كثير من الفلاسفة والمفكرين أن توجيه الميزانيات الهائلة لإنتاج أسلحةٍ تُستخدم في تدمير المدن وقتل البشر يمثل إهدارًا واضحًا للموارد البشرية والمالية والبحثية. في حين يعاني العالم من كوارث طبيعية مثل الفيضانات والأعاصير والحرائق وفيروساتٍ وأوبئة، قد يكون من الأجدى الاستثمار في الأبحاث والتجهيزات الطبية والوقائية وتحسين البنى التحتية.
3.2 الحرائق كعقاب للدول المصدّرة للحروب؟
ينظر البعض إلى تصاعد الحرائق من زاويةٍ رمزية، كأنها “عقاب” إلهي أو طبيعي يواجه به العالمُ القوى التي تنشر الدمار في أماكن أخرى. ومع أن هذا المنظور قد يبدو مجازيًا أكثر منه علميًا، إلا أنه يسلط الضوء على حقيقةٍ مهمة: ثمّة علاقة بين الإهمال البيئي والمشاريع الحربية. فالدول التي تُغدق المليارات على التسليح تتردد أحيانًا في تخصيص الموارد الكافية لحماية البيئة ومواجهة تغيرات المناخ؛ الأمر الذي يُفاقم التحديات البيئية ويزيد من احتمالية وقوع كوارث كالحرائق والجفاف.
3.3 مكاسب عالمية في حالة الاستثمار الأخضر
الاستثمار في مجال إخماد الحرائق والتصدي للكوارث البيئية ليس رفاهية، بل ضرورة. وعند تحويل السياسات والميزانيات نحو التنمية المستدامة وحماية المناخ، يستفيد جميع سكان الأرض. فعلى سبيل المثال:
- تقليص انبعاث الغازات الدفيئة يقلل من حدة التغير المناخي، الذي يعد السبب الرئيس في جفاف التربة وارتفاع درجات الحرارة، ومن ثم زيادة خطر الحرائق.
- حماية المساحات الخضراء عبر برامج إعادة التشجير تساعد في موازنة النظام البيئي وتخفيض درجات الحرارة محليًا.
- خفض التوترات الدولية: فعندما تُستثمر الأموال في التعاون الدولي على مواجهة الكوارث، يقل الميل للنزاعات المسلحة.
المحور الرابع: دراسات وإحصائيات داعمة لإعادة توجيه الإنفاق العسكري
- دراسة البنك الدولي (2021): أشارت إلى أنّ الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها الدول جرّاء الكوارث البيئية والمناخية (بما فيها الحرائق) قد تتجاوز ما تنفقه بعض الدول على الدفاع، وبشكلٍ متسارع كل عام بسبب تزايد حدّة التغير المناخي.
- تقارير الأمم المتحدة: تؤكد أن الحاجة إلى تمويلٍ إضافي في مجال مكافحة التغير المناخي وإعادة تأهيل المناطق المتضررة من الحرائق تصل إلى 100 مليار دولار سنويًا للدول النامية وحدها. ولو قورِن هذا الرقم بنفقات الدفاع العالمي (2.24 تريليون دولار)، لوجدنا أنه لا يشكل سوى نسبةٍ ضئيلة نسبيًا.
- منظمة الأغذية والزراعة (FAO): تُشير إلى تزايد رقعة التصحّر وتراجع المناطق الحرجية نتيجةً لتهميش مشاريع زراعة الغابات ومكافحة الحرائق، وهي عوامل تساهم بدورها في ضعف قدرة الأرض على امتصاص ثاني أكسيد الكربون وحماية التنوع الحيوي.
المحور الخامس: توصيات واستنتاجات
تشجيع الأبحاث في مجال إخماد الحرائق:
بدلًا من السعي نحو تطوير أسلحةٍ جديدة تُستخدم في النزاعات، يمكن توجيه ميزانياتٍ للتعاون الدولي في تصميم حلول تكنولوجية متقدمة لإخماد الحرائق، مثل طائرات دون طيار ذكية توزع مواد إطفاء أو أنظمة تحكم عن بعد تُحدد بؤر النار بالضبط.
إعادة النظر في أولويات الإنفاق العالمي:
من الضروري أن تُعيد القوى الكبرى والمجتمع الدولي النظر في حجم إنفاقها العسكري. قد يكون إنشاء صندوق عالمي لمكافحة الكوارث البيئية (بتمويل ضئيل مقارنةً بالإنفاق العسكري) أكثر قيمةً وأثرًا مستدامًا.
التوعية والتشريع:
على الحكومات والمؤسسات الدولية سنّ تشريعات تُلزم بإنفاق جزءٍ من ميزانيات الدفاع في مجالات البيئة ومكافحة الحرائق. فضلًا عن التوعية بأهمية الحفاظ على الثروات الطبيعية واتباع سياسات نمو مستدامة.
تعزيز التعاون بين الدول:
الحرائق لا تعرف حدودًا جغرافية، لذا فإن تكوين ائتلافاتٍ دولية لتبادل الخبرات والمعلومات والأدوات التكنولوجية لمكافحة الحرائق يُعد ضرورة لا مفر منها.
رفض النظرية القائلة إن الحرائق “عقاب” وحسب:
رغم انتشار الرؤية المجازية التي تعتبر الحرائق عقابًا للدول التي لا تستثمر في البيئة، إلا أن المعالجة العلمية للأمر تؤكد ارتباط الحرائق بعوامل مناخية وبشرية؛ فإهمال البيئة وتسخير الموارد للحروب يزيد الخطر، لكن لا يمكن تبسيطه إلى مجرد عقابٍ كوني.
خاتمة
إن طرح سؤال حول إمكانية استخدام القنابل لإطفاء الحرائق يفتح الباب أمام نقاشٍ أوسع يتعلق بتخصيص الموارد والميزانيات للأولويات الإنسانية العالمية. فبينما تُنفق تريليونات الدولارات على التسلح وتطوير الأسلحة التي غالبًا ما تُستخدم في تدمير مدنٍ وقتل أبرياء، يتصاعد خطر الحرائق والكوارث الطبيعية التي تؤثر على ملايين البشر وتُهدّد مستقبل الأرض كل عام. قد يبدو من غير الواقعي في الوقت الراهن إحداث نقلةٍ جذرية في توجهات الدول الكبرى، إلّا أن التوعية والضغط الشعبي والحراك البيئي قد يدفع باتجاه تحويل جزءٍ من تلك الإنفاقات إلى برامج تنموية وتعزيز التكنولوجيا البيئية.
الإجابة المختصرة:
لا، لا يمكن لقنابلٍ “تفرغ الهواء” أن تكون الحل الفعال والآمن لإطفاء الحرائق على نطاقٍ واسع، فالأنظمة الحالية القائمة على المياه والمواد الكيميائية أكثر فعالية وأمانًا.
نعم، لو تم صرف الأموال الطائلة المخصّصة لتطوير الأسلحة على إيجاد حلولٍ ناجعة للحرائق وغيرها من الكوارث البيئية، فإن العالم سيشهد تراجعًا ملموسًا في الخسائر الإنسانية والاقتصادية الناجمة عن الحرائق، وسيتمتع الجميع بفوائد هذه التقنيات.
أما عن مسألة اعتباره عقابًا، فهي فكرة رمزية يُمكنها أن تلفت الانتباه إلى ضرورة الاستثمار في البيئة بدلاً من الحروب، لكنها لا تُعد تفسيرًا علميًا للظاهرة.
إن التغيير الحقيقي يكمن في إرادةٍ دولية قوية وتعاونٍ جماعي لتوجيه الطاقات نحو حماية الأرض بدلاً من تدميرها، والتاريخ يثبت أن الأمم التي ترتقي بحضارتها هي تلك التي تستطيع تحويل إمكانياتها من صناعة الحروب إلى صناعة التنمية والسلام.
تم كتابة المحتوى باستخدام تشات جي بي تي