مفهوم “القوامة” في ضوء الفهم اللغوي والمقاصد القرآنية – القوامة بين الفهم التقليدي والتأويل المعاصر

مفهوم “القوامة” في ضوء الفهم اللغوي والمقاصد القرآنية – القوامة بين الفهم التقليدي والتأويل المعاصر

يُعَدُّ موضوع القوامة في الإسلام من أكثر الموضوعات التي أثارت جدلًا عبر التاريخ، وبخاصة في واقعنا المعاصر. وينبثق هذا الجدل من الآية الكريمة في سورة النساء:

“الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم” (النساء: 34).

أدى الفهم الشائع الذي يربط “القوامة” بالسيطرة أو السلطة المطلقة للرجل على المرأة إلى تكريس صورة نمطية خاطئة، تتعارض مع كثير من المبادئ القرآنية الداعية إلى العدل والمساواة والتكامل بين الجنسين. وفي هذه الأطروحة، سنسعى إلى تسليط الضوء على الأبعاد اللغوية والاجتماعية والفقهية لكلمة “القوّام” و”القوامة”، وتوضيح دلالاتها وفق منظار المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، مع الاستشهاد ببعض اجتهادات المفكرين والعلماء المعاصرين، ومنهم الدكتور محمد شحرور، الذين حاولوا تصحيح هذا الفهم السائد.


أولًا: البعد اللغوي لمصطلح “قوامة”

1. الفرق بين “قام على الشيء” و”قوّم الشيء”

  • “قام على الشيء” في اللغة العربية يعني تكفَّل به ورعاه ونهض بمسؤوليته. ومنه نقول: “قام الأب على شؤون أسرته”، أي نهض بتدبير احتياجاتهم وإنفاقهم.
  • “قوّم الشيء” يعني عدّله وأصلحه، كأن نقول: “قوّم المعوجّ”، أي أصلحه وصحّحه.

عند النظر في الآية “الرجال قوامون على النساء” نجد أن الجذر الذي يُستمد منه المصطلح هو فعل “قام”، أي تحمَّل المسؤولية والنهوض بالواجب. أما “قوّم” فينصرف إلى معنى الإصلاح والتعديل. وهذا الخلط بين الفعلين أدى إلى تفسير خاطئ لمفهوم القوامة بوصفه “تحكمًا” وسيطرة ذكورية، بدلًا من الفهم الأصيل للدور المتمثل في الرعاية والنهوض بالمسؤوليات.

2. “قوّام” بصيغة المبالغة

“قوّام” في اللغة صيغة مبالغة تدل على كثرة ممارسة القيام، مما يعني أن الرجل مأمورٌ (أو من يقوم بدور القوامة) بكثرة الاعتناء بشؤون من هم في رعايته. يقول ابن منظور في “لسان العرب”: “القوّام: القائم على الأمر المبالغ فيه؛ أي الذي يدوم على القيام ولا ينقطع عنه”. وبذلك، يتضح أن الآية تشير إلى مسؤولية متواصلة ودائمة تجاه المرأة، وليس تسلّطًا أو تحكّمًا.


ثانيًا: البعد السياقي والاجتماعي للآية

1. “بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ”

يُفهم من هذه الجملة في الآية أن الله تعالى جعل لكل طرفٍ خصائص تميّزه عن الآخر، وهذه الخصائص ليست دليل تفضيل مطلق لأحد الجنسين، بل هي مرتبطة بتوزيع الأدوار والمسؤوليات على أسسٍ اجتماعية واقتصادية ونفسية. فالرجل في المجتمعات القديمة (والتي نزل فيها القرآن) هو القادر عادةً على الخروج للعمل واكتساب المال، وبالتالي الإنفاق على الأسرة. أما المرأة فكانت في الغالب تتولى رعاية الأبناء وإدارة شؤون البيت. ومن هنا جاء الحديث عن “بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ” في سياق أن الرجال آنذاك كانوا في الأعم الأغلب أصحاب الدخل والقدرة على توفير الحماية المادية.

2. “وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم”

النص القرآني واضح في اشتراط الإنفاق بوصفه عِلّة القوامة أو مسوغها. فـ”القوامة” تتعلق بمن ينهض بشؤون الأسرة ويتولى تدبير أمورها الاقتصادية. وعليه، فإذا تغيّرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وأصبحت المرأة هي المنفقة أو تتقاسم مع الرجل الإنفاق، فإن المعنى الواسع للقوامة يمكن أن يشملها أيضًا، إذ إن النص علّق الأمر على “بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم”، ولم يختص الذكورة بشكل حتمي مانعٍ.

وقد أشار المفكر الإسلامي الدكتور محمد شحرور إلى أن فهم القوامة مرتبط بتحقق شرطها الرئيس، وهو الإنفاق، فبمجرد زوال هذا الشرط أو اشتراك المرأة فيه مع الرجل، تتغير طبيعة القوامة، وتصبح شراكة في إدارة شؤون الأسرة، أو قد تنتقل إلى المرأة إن كانت وحدها هي التي تقوم بتوفير النفقات.


ثالثًا: القوامة بين الفهم التقليدي والتأويل المعاصر

1. الفهم التقليدي

اعتمد كثير من المفسرين والفقهاء على القوالب الاجتماعية في عصرهم لتفسير الآية، فاعتبروا أن الرجل هو المسؤول الأوحد عن شؤون المرأة والأسرة، وأن “القوامة” هي ولايةٌ وسلطةٌ للرجل. ومن هنا ترسخت نظرةٌ تعتبر أن الرجل متفوقٌ على المرأة في كل شيء، وأن لها أن تطيعه في كل شأن من شؤون الحياة. غير أن هذا الفهم ساد في زمن كانت بنيته الاجتماعية والاقتصادية تختلف جذريًا عن عصرنا؛ إذ كان خروج المرأة للعمل أو مشاركتها في الإنفاق محدودًا للغاية، فتشكل تصورٌ اجتماعي يقصر دور الإنفاق على الرجل.

2. التأويل المعاصر وتصحيح المفهوم

شهد العصر الحديث محاولات جادة لإعادة قراءة الآية بما يتوافق مع السياق القرآني العام القائم على العدل والتكريم والمساواة في الإنسانية. ومن أبرز هذه المحاولات ما قدمه الدكتور محمد شحرور، والمفكر الراحل جمال البنا، وغيرهما ممن أثاروا النقاش حول شرط “الإنفاق” وكونه يرتبط بتحمل الأعباء المالية للأسرة.

يشير هؤلاء المفكرون إلى أن كلمة “قوام” أو “قوّام” في الآية لا تستلزم بالضرورة “التفوق النوعي” للرجل، بقدر ما تنص على المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية والأسريّة. وإذا اختلّ هذا الأساس أو تقاسم الطرفان الإنفاق، فالقوامة عندئذٍ تكون مشتركة، أو وفق معيار القدرة والمسؤولية لا وفق معيار الجنس.


رابعًا: النص القرآني والمقاصد العليا في المساواة والعدل

لا يمكن فهم آية واحدة بمعزل عن بقية الآيات التي تؤكد الأسس القرآنية في العدل والتكريم والمساواة، ومن ذلك:

  1. قوله تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (الإسراء: 70). فالمرأة من بني آدم، وهي مكرمة على حد سواء مع الرجل.
  2. قوله تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” (النحل: 97). ربط العمل الصالح والاستحقاق بالأجر والثواب بالإنسان عمومًا.
  3. قوله تعالى: “أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ” (آل عمران: 195). تأكيد على تكافؤ الجنسين في ميزان الأعمال والجزاء.
  4. قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات: 13). المعيار الوحيد للتفاضل هو التقوى والعمل الصالح، وليس الجنس أو اللون أو النسب.

وعليه، فإن تفسير “القوامة” بوصفها تفوقًا ذكوريًا مطلقًا يتعارض مع هذه الأُسس التي تساوي بين الرجل والمرأة في الإنسانية والكرامة والجزاء.


خامسًا: شواهد من السنة والتاريخ الإسلامي

  1. سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه
    • أثبتت السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشارك زوجاته في شؤون المنزل، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله” (أي في خدمة أهله)، مما يدل على دعم التعاون والتكامل، لا التسلط.
    • استشارته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في صلح الحديبية تدل على أهمية رأي المرأة واحترامه في قرارات سياسية ودينية مهمة.
  2. عمل النساء ومشاركتهن في الحياة العامة
    • كان النساء في عصر النبوة والصحابة يشاركن في ميادين العمل المختلفة بحسب ما تقتضيه الحاجة، مثل التمريض في الغزوات (كفعل الرّبيع بنت معوذ وأم عطية وغيرهما)، بل وكانت بعضهنّ تبيع وتتاجر، وهذا يدل على أنه لم يكن هناك منع مطلق أو تقزيم لدور المرأة في النشاط الاقتصادي.
  3. دور النساء في الإنفاق على أزواجهن
    • ورد في بعض كتب التراجم والحديث أن نساءً كنَّ ثريات وينفقن على أزواجهن. فلم يُعرف أنهنّ كنّ أقل شأنًا أو منزلةً جراء ذلك، مما يؤيد أن المسؤولية المالية يمكن أن تنعكس حين يقتضي الواقع ذلك.

سادسًا: نقد الفهم الذكوري الخاطئ

  1. خلط بين “القوامة” و”السيطرة”
    إن الانحراف عن المعنى الحقيقي للقوامة جعلها تُفهم بوصفها استبدادًا ذكوريًا، وربما استُخدمت لتبرير انتقاص حقوق المرأة. غير أن القرآن لو أراد التعبير عن سلطة مطلقة للرجل على المرأة، لاستخدم ألفاظًا تدل على الولاية المتعدية أو الحُكم أو السلطان، لكنه استخدم مصطلحًا قائمًا على رعاية المصالح.
  2. عدم انسجام التفسير الذكوري مع سياق العدل والمساواة
    يتعارض المعنى السيادي مع ما جاء في آيات كثيرة تحث على المساواة والعدل والشورى والتعاون بين الرجل والمرأة. لذا، فإن أي تفسير يختزل “القوامة” في السيطرة أمرٌ يناقض مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية.
  3. التعامل مع النّص في ضوء تطور الواقع
    إن حصر القوامة في الرجل بحجة الإنفاق قد ينهار حين تكون المرأة هي المنفقة أو هي الأقدر على إدارة شؤون العائلة. وهنا يأتي مفهوم القوامة المشترك أو النسبي، القائم على تبادل الأدوار وفقًا للظروف.

سابعًا: خلاصة ورؤية مستقبلية

  1. القوامة مسؤولية أكثر منها سلطة
    إن استقراء النصوص القرآنية والحديثية والسياق التاريخي والاجتماعي يظهر بجلاء أن القوامة مسؤوليةٌ تكليفيةٌ وليست تشريفيةً للتسلط والتحكم، ومسؤولية الرعاية والتنظيم والإنفاق وليس التفوق القيمي أو الإنساني.
  2. أهمية القراءة المقاصدية
    القراءة المقاصدية للنصوص تقتضي النظر إلى المآلات والغايات الكبرى للشريعة، من عدلٍ وتكريمٍ للإنسان أيًّا كان جنسه. ولذا فإن النص ينبغي أن يُفهم في ضوء هذه المقاصد، لا أن يُعزل أو يُقطّع من سياقه العام.
  3. دور الاجتهاد المعاصر
    مع تغير واقع المرأة المسلمة اليوم، وتعليمها وعملها واشتراكها في الإنفاق وفي قيادة مؤسساتٍ ومشروعاتٍ شتى، يصبح تفسير “القوامة” بوصفها حكرًا على الرجال تفسيرًا ناقصًا أو غير متسق مع الواقع. وهنا يأتي دور العلماء والمفكرين في إعادة قراءة الآية بما يحفظ كرامة المرأة والرجل على السواء ويضمن استقرار الأسرة وتكافلها.
  4. نموذج الشراكة والتكامل الأسري
    تبدو العلاقة المثلى بين الزوجين علاقة مبنية على مبدأ “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن” (البقرة: 187)، وهذا تعبير قرآني عن التكامل والستر والمودة. كما أرشدنا القرآن إلى “وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ” ، فلا مفهوم للتعسف أو التحكم مع المعاشرة بالمعروف.

خاتمة

إن مفهوم “الرجال قوامون على النساء” يستدعي اليوم مزيدًا من التأمل والبحث المسؤول، خصوصًا مع الأدوار المتغيرة في المجتمعات الحديثة. والفهم الأقرب إلى مقاصد الشريعة واللغة والسياق، هو أن القوامة تعني رعاية شؤون الأسرة والقيام بأعبائها المالية والإدارية، وهي مسؤوليةٌ تتحدد وفق شرط القدرة (الإنفاق والكفاءة) لا على أساس الجنس وحده. وإذا اشتركت المرأة في الإنفاق أو قامت به كاملًا، فبإمكانها أن تكتسب صفة القوامة بالمعنى المنوط بالمسؤولية.

وليس في ذلك تضارب مع روح الإسلام ومقاصده؛ بل إنه أقرب إلى قيم العدل والإنصاف التي طالما أكّدها القرآن. وفي مقابل الفهم الجامد للنصوص، يقدم هؤلاء المفكرون المعاصرون قراءة تساند مكانة المرأة ومشاركتها الكاملة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مع الحفاظ على استقرار الأسرة وتكامل الأدوار بين الزوجين.

وبذلك يُزال اللبس عن كثير من المفاهيم التي استعملت تاريخيًا لتبرير تهميش النساء أو الحط من مكانتهن. فالشريعة الإسلامية وُضعت لإقامة العدل والقسط بين الناس جميعًا، “لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” (الحديد: 25)، ولم تكن ولن تكون أداةً للظلم أو الاستبداد. ومن هنا ندعو القراء والمجتهدين والباحثين لإعادة استكشاف هذه المفاهيم الجوهرية عبر منهجية علمية ولغوية وتاريخية ومقاصدية، بما يحقق الرؤية الإنسانية الراقية للإسلام التي تؤكد التكريم والتسوية بين جميع البشر، رجالًا ونساءً.


كتب بواسطة تشات جي بي تي

 

أخبار تسعدك

اترك تعليقاً