فضائل الإسلام التي تخدم اللاعنف – هل اللاعنف جوهر في الإسلام والعنف طارىء أم العكس؟

يُعدّ الإسلام دينًا شاملاً يتضمّن منظومةً قيميةً وأخلاقيةً واسعة، تتداخل في جوانبها العقائدية والعبادية والتشريعية والسلوكية. ومن بين أهم القيم والفضائل الإسلامية البارزة تلك التي يمكن استثمارها في خدمة مبادئ اللاعنف والعمل السلمي في المجتمعات الإنسانية. ومع أنّ البعض قد يظنّ أنَّ الإسلام يختزل فقط في الأحكام القتالية والجهاد، إلا أنّ صورة الإسلام الكاملة والمُنزَّلة في النصوص القرآنية والسنّة النبويّة تضع أُسُسًا راسخةً للعمل الدؤوب في بثّ قيم الرحمة والعدل والتعاون والتعارف والتسامح بين الناس جميعًا.
تهدف هذه الأطروحة المطوّلة إلى تسليط الضوء على أبرز الفضائل الإسلامية التي تُعدُّ ركيزةً أساسيةً لتفعيل اللاعنف في حياة الأفراد والجماعات، من خلال استعراض الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة والشواهد التاريخية، وربطها بجهود المفكرين والباحثين المسلمين المعاصرين في مجال حلّ النزاعات سلميًا. وسنرى في هذا البحث كيف أنّ قيمًا مثل الصبر، والتعاون، والرحمة، والتعاطف، والعفو، والعقلانية، وغيرها، قد استُثمرت تاريخيًا وحاضرًا في بناء حركات اجتماعية سلمية، وفي دعم الاستقرار والتعايش.
فضيلة الصبر وأثرها في تأسيس منهج اللاعنف
أولاً: مفهوم الصبر في اللغة والاصطلاح
الصبر في اللغة العربية يحمل معانٍ متعدّدة، منها:
- عدم التسرع: أي التأنّي والحِلم عند اتخاذ القرارات.
- المثابرة والثبات: أي الاستمرار على طريق الحق والعمل الصالح رغم المصاعب.
- الصبر الجميل: وهو الصبر الخالي من الشكوى، أو مواجهة الابتلاء والمعاناة برضا وطمأنينة.
أمّا في الاصطلاح الشرعي، فيشير الصبر إلى قدرة الإنسان على ضبط النفس عن الانفعال أو ارتكاب ما لا يحسن، والثبات على الخير والطاعة، والاحتمال على المكاره في سبيل تحقيق هدف شرعي أو أخلاقي.
ثانيًا: الدلائل القرآنية على الصبر وعلاقتها باللاعنف
وردت في القرآن الكريم آيات عديدة تشجّع على الصبر، نذكر منها:
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153)
وقال أيضًا:
(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران: 186)
وفي آية أخرى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200)
تؤكد هذه الآيات على أهمية التحلّي بالصبر في مواجهة التحديات والصعوبات، وتربط الصبر بالصلاة والتقوى والمرابطة، وهي جميعها وسائل عملية للتحلي باللاعنف. إذ إنّ الصبر عند وقوع الظلم أو التعرض للعنف لا يعني الخنوع السلبي؛ بل يعني البحث عن سُبُل الإصلاح السلمي وحُسن التوجّه نحو الله والخلق، والثبات على المبدأ دون اللجوء إلى انتقامٍ أو إيذاءٍ مضاد.
ثالثًا: الصبر في السنّة النبويّة
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:
“ليس الشديد بالصرعة، إنّما الشديد من يملك نفسه عند الغضب.”
هذا الحديث يبرز جانبًا مهمًا من الصبر، وهو ضبط النفس أمام الاستفزاز والغضب، وعدم الانجرار إلى ردود فعلٍ عنيفةٍ أو متسرعةٍ. وهذه المعاني هي ما يحتاجه الناشط اللاعنفي في كفاحه ضد الظلم؛ فهو يحتاج إلى ثبات داخلي وتماسك في الأزمات.
رابعًا: أمثلة تاريخية على الصبر في المنهج اللاعنفي
من أبرز الأمثلة التي تُوضِّح دور الصبر في العمل السلمي هو سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترة المكيّة؛ فقد تعرّض هو وأصحابه للأذى البدني والنفسي، ومع ذلك التزموا بالصبر والدعاء والمثابرة على دعوتهم، دون لجوء إلى العنف أو الانتقام. وقد سُمّي هذا “الصبر الجميل”؛ إذ تعامل النبي مع خصومه برحمة وحكمة، وكانت النتيجة أن دخل كثير من الناس في الإسلام بعد رؤيتهم لأخلاقه وصبره.
كما يُشار إلى القائد المسلم عبد الغفار خان – الملقّب بغاندي الحدود – الذي قاد حركات سلمية في شمال غرب الهند، مستلهمًا من تعاليم الإسلام قيم الصبر والثبات دون عنف. وقد أثبت أنّ هذه الفضيلة الإسلامية يمكن توظيفها بفعالية في النضال المدني ضد الاحتلال.
فضيلة التعاون والعمل الجماعي ودورها في الحركات السلمية
أولاً: الإسلام دين التعاون والتكافل
من القيم الإسلامية الرئيسة قيمة التعاون، التي تعدّ ضرورةً اجتماعيةً وأخلاقيةً في آنٍ معًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يد الله مع الجماعة.”
وقد أكّد الإسلام على أهمية العمل ضمن روحٍ جماعيةٍ ونظامٍ يستند إلى التكافل والدعم المتبادل بين أفراد المجتمع. واللاعنف لا يمكن أن ينجح في فراغٍ فردي؛ بل يحتاج إلى تحرّك جماعي وتنظيمٍ وتنسيقٍ مشترك، وهو ما تؤكده النصوص الشرعية.
ثانيًا: الدلائل القرآنية والحديثية
قال تعالى:
(…وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…) (المائدة: 2)
“انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا، قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: تردُّه عن ظلمه.”
في هذا توجيهٌ نبويٌّ واضحٌ لكيفية دعم الفرد لأخيه: إن كان مظلومًا يُعان على رفع الظلم، وإن كان ظالمًا يُعان على ترك ظلمه والعدول عنه. وهذه الفكرة هي لبُّ العمل اللاعنفي؛ فهي تُعلّم المسلم السعي إلى الإصلاح لا إلى الانتقام.
ثالثًا: توسعة مفهوم الأمة
يرى باحثون مثل فريد إسحاق إمكانية توسيع مفهوم “الأمة” الإسلامية ليشمل غير المسلمين أيضًا، حيث إنّ أصل الإنسانية واحد، وإنّ هدف الإسلام هو بناء مجتمعٍ عالمي في ظلّ الله. فإذا اتّسع مفهوم الأمة ليشمل “أهل الكتاب” أو حتى غيرهم، توثَّقت الأواصر الاجتماعية وتقلّصت المسافات النفسية، مما يساهم في منع العنف وخلق فرص أكبر للحوار.
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ…) (النساء: 1)قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ…) (الحجرات: 13)
وقد بنى باحثون آخرون على هذا الفهم، وأكّدوا أنّ قيمة التعاون والتماسك الاجتماعي لا يجب أن تنحصر داخل إطار المسلمين فقط، بل تتجاوز الحدود الدينية والعرقية، كي تتحقّق قيم العدل والسلام على نطاقٍ أوسع.
رابعًا: التجارب العملية للعمل الجماعي السلمي
تاريخيًا، نجحت عدّة حركات إسلامية شعبية في تحقيق أهدافٍ سياسيةٍ أو اجتماعيةٍ دون عنف، اعتمدت على مبادئ التعاون والتشارك في تحمّل المسؤولية بين أفراد المجتمع المسلم. كما شكّلت فكرة “الأمة المسلمة” دافعًا قويًا لتعبئة الطاقات الاجتماعية في العمل الخيري والإغاثي، والذي يعكس تجسيدًا ملموسًا لمبدأ التعاون لصالح الضعفاء والمحتاجين.
فضيلة الرحمة والتعاطف والغفران كمحاور أساسية في منهج اللاعنف
أولاً: مفهوم الرحمة في الإسلام
الرحمة مكوّنٌ أساسيٌّ في البنية الأخلاقية الإسلامية. تتكرّر كلمات مثل: “الرحمة، الإحسان، العفو، المغفرة” بكثرة في القرآن والسنّة، ممّا يدلّ على مركزيتها. وأسماء الله الحسنى التي يفتتح بها المسلم عمله اليومي “بسم الله الرحمن الرحيم” تؤكّد أنّ الرحمة أساس العلاقة بين الله وعباده، وبين الإنسان ونفسه والناس من حوله.
قال تعالى:
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء: 107)
هذا الإعلان القرآني يُثبت أنّ رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا تقتصر على المؤمنين به فقط، بل تمتد لتشمل العالمين جميعًا. ويعلّق بعض المفكرين كإنجنير على ذلك قائلاً: إنّ من يتّبع الرسول بحق لا بدّ أن يتزيّن بصفة الرحمة في تعامله مع الناس والكائنات الحيّة كافّة.
ثانيًا: التعاطف مع الفقراء والضعفاء
يربط الإسلام الرحمة بالجانب الاجتماعي عمليًا، فتراه يحضّ على الإنفاق على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الجار، والرفق بالحيوان. وفي تاريخ الحضارة الإسلامية، نجد أن بعض المدن قد أنشأت مؤسسات خاصة لرعاية الحيوانات المريضة أو المُسنّة، وهي خطوة تُظهر امتداد مفهوم الرحمة إلى عالم الحيوان، ولم يقف عند البشر فقط.
ثالثًا: قيمة المغفرة والعفو وأثرها السلمي
من القيم التي تتفرّع عن الرحمة قيمة العفو. وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى فضل العفو وكظم الغيظ:
قال تعالى:
(وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ…) (الشورى: 40)قال تعالى:
(…وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ…) (آل عمران: 40)
من هذا المنطلق، فإنّ العفو ليس موقفًا سلبيًا أو ضعفًا، بل هو قوّة أخلاقية نابعة من اقتناعٍ بأنّ الإصلاح والبناء يتفوّق على الانتقام في تحقيق الصلاح العام. ومن أعظم الشواهد التاريخية على ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة، إذ عفا عن المشركين رغم ما صنعوه بالمسلمين في بداية الدعوة، وقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء.”
فكانت تلك الخطوة صفحة جديدة في العلاقات الاجتماعية، أسست لمرحلة سلمية من التعايش داخل مكة بعد طول صراع.
عالمية الكرامة الإنسانية في الإسلام ودورها في نبذ العنف
أولاً: التكريم الإلهي لابن آدم
إنّ من المقومات الأساسية للرؤية الإسلامية تجاه الإنسان أنّه مكرّم من الله.
قال تعالى: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر…) (الإسراء: 70)
ويقول في موضعٍ آخر: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (التين: 4)
يستفاد من هاتين الآيتين أنّ الإنسان – بغضّ النظر عن دينه وجنسه ولغته – له كرامة فطرية ومكانة سامية. وإذا كان الهدف من كل تشريع إسلامي حماية وحفظ النفس البشرية، فكيف يمكن تبرير الاعتداء عليها؟!
من هنا يتأسس العمل اللاعنفي في الإسلام على تقدير قيمة الإنسان وحقه في الحياة والكرامة، مما يدفع نحو حلولٍ بديلةٍ عن القتل والحرب، والبحث عن الإصلاح والتواصل بدلاً من العنف.
ثانيًا: التسامح مع أصحاب الديانات الأخرى
قال تعالى:
(…إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً…) (المائدة: 69)(…وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا…) (النساء: 94)
هذه الآيات تبيّن أنّ الإيمان والإخلاص في العمل الصالح هو محل الاعتبار عند الله، لا مجرّد الانتماء. كما أنّ ميثاق المدينة الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة المنوّرة مثالٌ واضحٌ على احترام عادات وتقاليد الآخرين، والتعايش معهم في ظلّ نظامٍ واحدٍ يحفظ الحقوق والواجبات.
يرى المفكر عبد العزيز ساشيدينا أنّ “الأمة الناجية” لا تنحصر في المسلمين فحسب، بل تشمل كل من يعترف بإلهٍ واحدٍ ويحافظ على علاقاتٍ سليمةٍ مع المجتمع الإسلامي. وهذا الطرح يوسّع دائرة التسامح والتعايش السلمي ليشمل أطيافًا أشمل من الناس.
(…لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ…) (الممتحنة: 8)
ثالثًا: انعكاس التكريم الإنساني على السلوك الاجتماعي
الاعتقاد بأنّ الحياة الإنسانية مقدّسة وأنّ قتل نفسٍ بريئةٍ بمثابة قتل الناس جميعًا – كما جاء في القرآن الكريم:
(…مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا…) (المائدة: 32)
إن هذا البلاغ يزرع في النفس وازعًا قويًا ضد الاعتداء على الآخرين. ويدفع نحو إيجاد حلول تفاوضية وسلميّة لأي صراعٍ قبل الانجرار إلى إراقة الدماء.
مفهوم الفطرة والاعتقاد بخيرية الإنسان وأثره في نشر ثقافة اللاعنف
أولاً: معنى الفطرة في الإسلام
يشير مفهوم الفطرة إلى أنّ كل إنسانٍ وُلِد على معرفةٍ عميقةٍ بالحقّ والخير، وأنّ هذه المعرفة يمكن أن تتجلّى إذا خَلُصت النية والضمير. وبذلك لا يتم التعامل مع البشر على أنّهم “أشرارٌ بالضرورة”؛ بل على العكس، يُعطى الإنسان فرصًا متعددة للرجوع إلى فطرته النقية. وهذا الانطباع الإيجابي عن طبيعة البشر يدفع نحو مخاطبة الجانب الأخلاقي والإنساني عند الخصوم، بدلًا من استخدام العنف.
ثانيًا: تطبيقات مفهوم الفطرة في حلّ النزاعات
- الاعتراف بأنّ كل خصمٍ يحمل جانبًا من الإنسانية يجعله قابلًا للتحاور والتفاهم ومن المهم عدم شيطنته.
- عدم استعجال الحكم على الآخر بأنّه ميؤوسٌ منه.
- السعي إلى إظهار الوجه الأخلاقي والقيمي في النزاعات، بحيث ينمو الشعور بالمسؤولية الجماعية لدى الأطراف المتنازعة.
ثالثًا: أثر ذلك على حركات التحرر السلمي
يشير الباحث مينا شريفي فنك إلى أنّ النظرة الإيجابية للفطرة البشرية تساعد في جعل الحرية قابلة للتطبيق في الواقع، لأنّ الناس متى اقتنعوا بأهليتهم للخير والحوار، تفتّحت أمامهم آفاق بدائل سلمية للتعبير عن مطالبهم، بدلاً من الاستسلام لدعوات العنف.
قيمة العقلانية والحكمة ودورهما في ترسيخ منهج اللاعنف
أولاً: العقلانية في القرآن والسنّة
من أبرز القيم التي تظهر في القرآن الكريم: الحكمة، والتفكّر، والتعقّل. يقول الله تعالى:
(ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن…) (النحل: 125)
توضح هذه الآية أنّ استخدام العقل والحوار الراقي هو المنهج الشرعي للدعوة، بدلًا من الشدة والعنف. كما يستشهد الباحث أبو نمر بأنّ هذه الآية تذكّرنا بأهمية اللين والمرونة العقلية في تقديم الأفكار أو ردّ الإساءات.
(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا…) (النحل: 125)
أي جاهدهم بأفكار القرآن والصبر عليهم، وليس بالعنف والسلاح.
ثانيًا: مدرسة المعتزلة ودورها في إبراز العقلانية
ظهرت في التاريخ الإسلامي مدرسةٌ فكريةٌ ضخمةٌ تُسمّى المعتزلة، ركّزت على دور العقل في فهم النصوص الشرعية. ومع أنّها مرت بفترات مدّ وجزر، إلا أنّ المبدأ الرئيس لها – وهو “تقديم العقل في فهم الأمور” – يشير إلى وفرة الآيات القرآنية التي تخاطب “أولي الألباب” و**”أولي النهى”**، وتدعوهم إلى التأمّل في آيات الله الكونية والتشريعية. ويرى بعض المفكّرين المعاصرين أنّه يمكن الاستفادة من هذا التراث العقلي لإحياء ثقافة النقد البنّاء واجتناب القراءات العنيفة للنصوص.
ثالثًا: الاجتهاد والمرونة الفكرية
يرتبط الاجتهاد بحيوية الشريعة الإسلامية وإمكانية مواكبتها للتطوّرات الزمنية والمكانية. فالمجتهد الذي يسعى لاستخراج أحكامٍ جديدةٍ أو تكييف أحكامٍ قائمةٍ على واقعٍ متغير، يحتاج إلى ملكات التفكير الإبداعي والحسّ الإصلاحي. وهذه الملكات ذاتها هي التي يحتاجها بناء السلام؛ إذ تتطلّب عمليات المصالحة وحلّ النزاعات مرونة في التفكير، وقدرة على التفاوض، وقابليّة لإيجاد حلولٍ مبتكرةٍ بعيدًا عن العنف.
أمثلة تطبيقية من السيرة والتاريخ الإسلامي في نبذ العنف وتغليب السلم
- ميثاق المدينة: وضعه النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود والمشركين في المدينة، وهو أوّل دستورٍ مدنيٍّ شاملٍ في التاريخ الإسلامي، يقرّ بحرية الأديان ويحترم العادات والتقاليد، ويضع مبدأ المواطنة المشترك أساسًا للعلاقات الاجتماعية.
- فتح مكة: كان في قمة القوة العسكرية، ومع ذلك عفا عن المشركين وعاملهم برفق. وهي أبرز الأمثلة العملية لروح اللاعنف والعفو عند المقدرة.
- التعامل مع الأسرى: أوصى النبي وأصحابه بحسن معاملة الأسرى، وإطعامهم وكسوتهم، الأمر الذي كان متقدّمًا في زمن كان القتل والتعذيب للأسرى سائدًا في حضارات أخرى.
- المواقف الإصلاحية للخلفاء الراشدين: فعمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع الأسس الإدارية والرقابية التي تصون حقوق الناس وتمنع تعدّي المسؤولين أو الأفراد بعضهم على بعض.
إذا وتلخيصاً لكل شيء، هل اللاعنف جوهر في الإسلام والعنف طارىء أم العكس؟
الجواب المختصر:
تمثِّلُ القيمُ السلمية واللاعنفُ في الإسلام جوهرًا أصيلًا وثابتًا، بينما يُعدّ استخدامُ القوة أو العنف استثناءً مشروطًا بظروفٍ محدّدة وضوابط صارمة، وليس الأصل ولا القاعدة.
تفصيل الجواب
- الأصل في العلاقات الإنسانية في الإسلام هو السلم
- يقول الله تعالى:
(وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: 61]
هذه الآية تُظهِر بوضوح أنّ الإسلام يدعو إلى السلام أولًا، وإذا أبدى الطرف الآخر رغبةً في السلم وجب على المسلم أن يستجيب لذلك. - كما يظهر من مجمل نصوص الشريعة أنّ الحوار والتفاهم والتعايش هو الأساس في علاقة المسلمين مع غيرهم، وأنّ العنف أو القتال يُشترط له ضوابط دفاعية صارمة.
- يقول الله تعالى:
- العنف في الإسلام ليس غاية، بل هو استثناءٌ ومقيَّدٌ بظروفٍ خاصة
- يُقرّ الإسلام بضرورة الدفاع عن النفس أو دفع العدوان حال وقوعه، ولكن ذلك مشروطٌ بمراعاة قواعد أخلاقية وإنسانية؛ فلا يُقتل المدنيون، ولا يُقطَع الشجر، ولا تُدمَّر البنية التحتية بلا موجب، وهذه كلّها قيود تشريعية هدفها حصر دائرة الضرر في أضيق نطاق.
- يقول الله تعالى:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج: 39]
أي أُذِن لهم بردّ العدوان لا لابتداء العداء، ممّا يبيّن أنّ القتال في الإسلام رُخِّص لصدّ الظلم، وليس لتوسيع نطاق العنف.
- شواهد من سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم
- ميثاق المدينة: وضع النبي ميثاقًا مع اليهود وسكّان المدينة من غير المسلمين، يضمن الحرية الدينية والتعايش السلمي، ممّا يدلّ على أنّ الأصل هو تنظيم الحياة العامة بالعدل والمساواة، وليس الخضوع لمنطق الحرب.
- المرحلة المكيّة: عانى المسلمون من الاضطهاد دون أن يُؤذَن لهم بالقتال لعشر سنوات تقريبًا، التزموا فيها بالصبر واللاعنف والدعوة السلمية.
- فتح مكة: أعظم مثالٍ على الرحمة والعفو عند المقدرة؛ دخلها النبيُّ فاتحًا بعد سنواتٍ من اضطهاد قريش للمسلمين، فعفا عنهم ولم ينتقم.
- المنظومة الأخلاقية الإسلامية تستبطن فلسفةَ اللاعنف
- من أهمّ القيم التي نجدها في النصوص الإسلامية: الرحمة، والعدل، والرفق، والعفو، والصبر، والتعاون، وهذه كلّها تغذّي روح السلم ونبذ العنف.
وبذلك يتضح أنّ اللاعنف هو الأصل في الإسلام، وأنّ العنف استثناءٌ تفرضه الضرورة لدفع العدوان أو الظلم، ضمن ضوابط أخلاقية وشرعية تحفظ كرامة الإنسان وحياته.
إنَّ دراسة فضائل الإسلام التي تخدم اللاعنف تكشف عن ثراءٍ قيمي وأخلاقي متجذّرٍ في النصوص التأسيسية (القرآن الكريم والسنّة النبويّة) وفي التجربة التاريخية للمسلمين. وقد حاولنا في هذه الأطروحة المطوّلة تسليط الضوء على أهم الجوانب والفضائل التي يمكن توظيفها لترسيخ ثقافة اللاعنف في المجتمعات المسلمة خاصّةً، والعالمية عامّةً.
وعلى الرغم من التحديات التي تواجه المسلمين اليوم، والقراءات المتشدّدة لبعض النصوص، يظلّ باب الأمل مفتوحًا بتفعيل هذه الفضائل القرآنية والنبوية. إنَّ بناء ثقافةٍ قائمةٍ على هذه القيم يتطلّب جهودًا تربويةً وإعلاميةً وسياسيةً شاملة، تبدأ من تنشئة الأجيال الجديدة على مفاهيم الحوار والتسامح، وعدم الاقتصار على ردود الأفعال العنيفة.
ختامًا، فإنّ إمكانات تطبيق اللاعنف في السياق الإسلامي هائلة، إذا ما تمّ فهم النصوص في سياقها الشامل، واستحضرت التجارب التاريخية الملهمة، وتُرجم ذلك إلى برامج تعليمية ومجتمعية تُنمي الوعي بالقيمة الإنسانية المشتركة. وبذلك يقدّم الإسلام أنموذجًا متينًا للتعايش السلمي وحلّ النزاعات على أساس المودة والعدل والرحمة.
هذه الدراسة ليست إلا مدخلًا واسعًا لموضوعٍ هامٍّ وبالغ العمق. ويظلّ تطبيق هذه المبادئ في الواقع مرتبطًا بعوامل سياسية واجتماعية وثقافية معقدة، لكن الرؤية الإسلامية الأصيلة تمدّنا بكثيرٍ من الثقة في الإمكانات الإيجابية الكبيرة للبشر في ترسيخ ثقافة اللاعنف وبناء مجتمعاتٍ أكثر سلامًا وعدلًا.
المراجع والإشارات من كتاب الإسلام يعني السلام للباحث إميتاب بال “Amitabh Pal”
تم كتابة المحتوى بواسطة تشات جي بي تي