الجهاد غالباً لايعني الحرب: الخوض في الجانب الأكثر إثارة للجدل في الإسلام

الجهاد غالباً لايعني الحرب: الخوض في الجانب الأكثر إثارة للجدل في الإسلام

يُعَدُّ مفهوم الجهاد في الإسلام أحد أبرز المفاهيم الدينية التي دار حولها جدل طويل وكبير، سواء في الأوساط الإسلامية نفسها أو في خضم التفاعلات الثقافية والدينية بين العالم الإسلامي والغرب. فالجهاد ــ بما يحمله من تعددية في المعاني والدلالات اللغوية والشرعية ــ قد تعرَّض لسوء فهم وتشويه متعمد أحيانًا، سواء من قبل التيارات المتطرفة التي تحاول توظيفه في أعمال عنف وإرهاب خارج إطار الضوابط الشرعية والأخلاقية، أو من قبل جهات خارجية لا تتوانى عن ترويج صورة نمطية خاطئة تجعل من الجهاد مرادفًا لـ“الحرب المقدسة” الدموية ضد الآخر.

تأتي هذه الأطروحة المطوّلة لتسلط الضوء على المعنى الحقيقي للجهاد كما هو في النص القرآني والسنة النبوية والتراث الإسلامي الغني، وكما تبلور عبر السياقات التاريخية الممتدة منذ العصر النبوي الأول في مكة والمدينة، وصولًا إلى القرون اللاحقة، ثمَّ إلى العصر الحديث وما شهده من اجتهادات إصلاحية وحركات تحديث في الفقه والفكر الإسلامي. وسنعرض فيها لأبعاد الجهاد المتعددة: ابتداءً من “جهاد النفس” باعتباره “الجهاد الأكبر”، وما يستلزمه ذلك من تهذيبٍ روحي وأخلاقي؛ مرورًا بمفهوم الجهاد بالسيف أو ما اصطلح على تسميته “الجهاد الأصغر” ضمن الأُطر الشرعية والأخلاقية (الحرب العادلة)، وانتهاءً بمساحة واسعة تتناول فهم الجهاد بوصفه سعيًا لتحقيق العدالة الاجتماعية والدعوة إلى الخير ومقاومة الظلم.

سنحاول أيضًا استعراض الأسباب التي أدت إلى تشويه المصطلح من جهات عدّة، سواء من داخل العالم الإسلامي أو خارجه، وكيف ساهمت عوامل سياسية واجتماعية وتاريخية في تغييب السياقات الأصلية التي رافقت تشريع القتال دفاعًا عن المظلومين في النص القرآني والسيرة النبوية. كما سنتعرّض للمواقف الفكرية المختلفة في التراث الفقهي الإسلامي، وما نشأ عنها من تقسيم للعالم إلى “دار إسلام” و“دار حرب” و“دار صلح”، وانعكاس هذه التقسيمات على مفهوم الجهاد وتطبيقاته.

سنعمد في هذه الأطروحة إلى توظيف النصوص القرآنية والحديثية والشواهد التاريخية التي تلقي الضوء على تعددية مفهوم الجهاد، كما سنستشهد بعدد من أقوال علماء مسلمين، قدامى ومحدثين، وأيضًا ببعض الباحثين المعاصرين من داخل العالم الإسلامي وخارجه ممن كتبوا باستفاضة عن هذا الموضوع. بالإضافة إلى ذلك، سنستفيد من المعلومات الواردة في النصّ المرفق في السؤال، ونحاول دمجه في السياق الأوسع لدراسات مقارنة الأديان والتاريخ واللغويات، وصولًا إلى محاولة بلورة رؤية متكاملة حول الجهاد في الإسلام.

وبالرغم من أنّ هذه الدراسة تتكئ على مصادر تراثية وتاريخية ودينية ثرية، فإنّنا لن نتوانى عن ممارسة نوع من التحليل الفلسفي والفكري الناقد الذي يطلبه العصر الحديث لفهم الأبعاد العملية والأخلاقية التي ينطوي عليها المفهوم اليوم، بما يتجاوز حدود الجدل السياسي والأيديولوجي. آملين في نهاية المطاف أن نسلّط ضوءًا كافيًا على هذا الركن أو المفهوم الجوهري في الإسلامية، وأن نجيب عن الأسئلة الأكثر إلحاحًا: هل الجهاد هو بالضرورة الحرب؟ أم أنّه أوسع وأعمق من ذلك بكثير؟ وما هي ضوابطه الأخلاقية والشرعية؟ وكيف يمكن أن نتعامل مع النصوص التي تبدو ــ للوهلة الأولى ــ حاثة على العنف، بقراءة تضعها في سياقها التاريخي والقيمي الصحيح؟


الفصل الأول: المعنى اللغوي والاصطلاحي لمفهوم الجهاد

1.1 الأصل اللغوي للجهاد

الجِذْر اللغوي لكلمة “الجهاد” في العربية مشتقٌّ من الفعل (جَهَدَ) على أوزان مختلفة؛ فيقال: “جَهَدَ يَجْهَدُ جَهْدًا وجُهدًا”، وقد يأتي بضمّ الجيم للدلالة على الطّاقة والوسع، أو بفتحها للدلالة على المشقّة والغاية. وبهذا المعنى يُفهم أنَّ “الجهاد” يدلّ على بذل غاية الوسع والطاقة أو بذل أقصى ما يمكن للإنسان من قدرة وجهدٍ بدنيٍّ أو معنويٍّ أو فكريٍّ لأجل غاية محددة. وهذا المعنى اللغوي يفتح الباب لتعدّد السياقات التي يمكن أن يُستخدم فيها المصطلح.

ففي اللغة العربية، يمكن الحديث عن “جهاد النفس” عندما يكون المعنى هو مقاومة أهواء النفس وشهواتها، أو “الجهاد في سبيل الله” للدلالة على العمل في سبيل قضيّة عادلة أو رفع الظلم عن الناس أو الدفاع عن الدين والوطن. كما يمكن أن يقال “جاهد بلسانه” أي ناضل وحاجج بالمنطق والكلمة، و“جاهد بماله” أي بذل ماله من أجل قضية مؤمنةٍ عادلة. ومن العجيب أنّ مصطلح “الجهاد” يُستخدم في اللغة العربية الحديثة أيضًا في سياقات لا علاقة لها بالحرب إطلاقًا، مثل جهاد الهند بقيادة المهاتما غاندي ضد الاستعمار البريطاني، والذي كان نضالًا سلميًّا (لاعنفياً)، ومع ذلك عُرفت تلك الحركة في بعض الأدبيات العربية بـ“جهاد الهند نحو الاستقلال”.

1.2 المعنى الاصطلاحي للجهاد

في السياق الإسلامي الشرعي، تحوَّل معنى الجهاد ليدلَّ على أحد المفاهيم الفقهية العظيمة التي أحاطتها الشريعة الإسلامية بمجموعة من القواعد الأخلاقية والقانونية الصارمة. ونجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على “الجهاد”، لكنّها ليست كلّها تتحدث عن القتال بمفهوم المعركة أو الحرب، بل تتعدد المعاني:

جهاد النفس: وهو السعي المتواصل لتهذيب النفس الإنسانية وترقيتها أخلاقيًّا وروحيًّا ومعرفيًّا.
جهاد اللسان: ويشمل الدعوة بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجادلة بالتي هي أحسن والقول الحسن.
جهاد اليد: ويتضمن العمل الصالح والنضال الفعلي ضد أشكال الظلم الاجتماعي أو السياسي، وقد يشمل حمل السلاح دفاعًا عن النفس إذا توفرت الشروط الشرعية.
جهاد المال: وفيه يُسهم المرء في نصرة الحقّ ودعم القضايا الإنسانية العادلة بماله.
الجهاد بالقرآن: كما في قوله تعالى: “وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا” (الفرقان: 52)، أي جاهدهم بالقرآن والدعوة والبيان، وليس بالسيف.

ولقد أكّد كثير من العلماء المسلمين، قديمًا وحديثًا، أنّ القتال العسكري ــ وفق الضوابط الإسلامية ــ ليس إلا أحد أوجه الجهاد، ويسمى في الاصطلاح الفقهي “الجهاد الأصغر” مقارنة بالجهاد الأخلاقي والروحي “الجهاد الأكبر”. ويروى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنّه قال في طريق العودة من إحدى الغزوات: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”. ورغم أنّ هذا الحديث قد اختلف أهل العلم في مدى صحته من جهة الإسناد؛ إلا أنّ معناه حظي بقبول واسع النطاق لدى عدد كبير من المسلمين، إذْ يعكس التركيز على أنّ مقاومة شهوات النفس وأهوائها وتهذيبها عمل أعظم وأعلى أثرًا وأصعب من الجهاد الأصغر، أي من الحرب نفسها في كثير من الأحيان.

1.3 التداخل بين المفهومين: الجهاد والقتال

من الأخطاء الشائعة ــ سواء في الإعلام الغربي أو لدى بعض المتحمسين من المسلمين ــ خلطُ الجهاد بالقتال ظنًّا منهم أن المصطلحين مترادفان. والحقيقة أنّ القرآن الكريم حين يشير إلى المعركة الحربية يستخدم عادة مصطلح “قتال”، مثل قوله:

– “وَقَـٰتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ” (البقرة: 190).
– “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا۟ فِيكُمْ غِلْظَةًۭ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ” (التوبة: 123).

أمّا “الجهاد” في القرآن فهو أوسع من ذلك بكثير، ويحمل معاني متعددة تتصل بذل الجهد في سبيل الدعوة إلى الله بالعلم والعمل والكلمة الحسنة والدفاع عن المستضعفين. وبذلك يغدو الخلط بينهما نوعًا من التشويش العلمي واللغوي الذي يحتاج إلى تصويب.


الفصل الثاني: الأبعاد القرآنية للجهاد

2.1 الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجهاد

وردت كلمة “جهاد” ومشتقاتها في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وفي سياقات مختلفة. ومن أبرز هذه المواضع قول الله تعالى:

“وَجَـٰهِدُوا۟ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ” (الحج: 78)، أي ابذلوا أقصى الطاقة في سبيل الله على كافة الأصعدة.
“فَلَا تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَجَـٰهِدْهُم بِهِۦ جِهَادًۭا كَبِيرًۭا” (الفرقان: 52)، والمقصود هنا جاهدهم بالقرآن والدعوة والبيان، لا بالقتال.

في المقابل، نجد آيات قرآنية تتحدث عن “الجهاد” بصيغة “يُقَـٰتَلُونَ” أو “قَـٰتِلُوهُمْ ” ولكنّها واضحة في أنّ الموضوع دفاعي أو مشروط، مثل:

“أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا۟ ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ” (الحج: 39).
“وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌۭ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ ٱنتَهَوْا۟ فَلَا عُدْوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ” (البقرة: 193).

يتبيّن من مجموع هذه الآيات أنّ حمل السلاح في الإسلام ليس حرًّا مطلقًا أو غير منضبط، بل تحكمه قيود وأخلاقيات تفرضه في حال التعرض لظلم أو عدوان أو اضطهاد ديني يمنع المسلمين من ممارسة عبادتهم.

2.2 الفكرة المحورية: لا إكراه في الدين

من أهم ما ينبغي الوقوف عنده في فهمنا للجهاد قوله تعالى:

“لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (البقرة: 256).

هذه الآية المحورية تُظهر بجلاء أنّ الإسلام لا يسمح بالإكراه على اعتناقه، ولا يعتبر القتال وسيلة لفرض الدين على الناس، وإنما هو فقط دفاعٌ عن الحق وردٌّ للعدوان وصيانةٌ للحريات الدينية، بما في ذلك حرية غير المسلمين في الاعتقاد وممارسة طقوسهم. يُعضّد ذلك ما جاء في سورة الممتحنة:

“لَّا يَنْهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوٓا۟ إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة: 8).

فقد أوضح النص القرآني أنّ العلاقة مع غير المسلمين المسالمين يجب أن تقوم على البرّ والعدل والإقساط. ومن ثمَّ، فإنَّ أي تفسيرات تُسوِّغ القتال من أجل “إجبار” الآخرين على اعتناق الإسلام تقع في مغالطة كبرى، ولا تلقى أي سند في الكتاب أو في السنة النبوية الصحيحة.

2.3 آيات القتال الأكثر إشكالية ووضعها في سياقها

كثيرًا ما يستشهد منتقدو الإسلام ببعض الآيات التي تحث على القتال، مثل قوله تعالى:

“فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلْأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُوا۟ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍۢ ۚ …” (التوبة: 5).

لكن السياق التاريخي والنصي يوضح أنّ هذه الآية جاءت في ظرفٍ محدد يتعلق بقبائل مشركة نقضت عهودها وهاجمت المسلمين عدة مرات. فأمر الله تعالى نبيه بمقاتلتهم ما لم يعودوا إلى السلم ويتوبوا عن عدوانهم. وفي الآية نفسها:

“فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ” (التوبة: 5)،

ما يشير إلى أنّ الأمر هو قتال دفاعي لصد عدوان واقعي، لا قتال عدواني لغرض الإكراه أو الاستعباد.

وبذلك، يحتاج الباحث إلى تتبّع السياق التاريخي “أسباب النزول” واستقراء الآيات القرآنية الأخرى المكمّلة حتى يتجنَّب الانتقائية التي يقتصر فيها على آية واحدة ويُهمل بقية النصوص.


الفصل الثالث: أقسام الجهاد بين “الأكبر” و“الأصغر”

3.1 الجهاد الأكبر (جهاد النفس)

يُعَدُّ جهاد النفس ــ أو ما يُعرف بتزكية النفس ــ “الجهاد الأكبر”، حيث يرتبط هذا المفهوم بمعاني التطهير الداخلي من الأهواء والشهوات وضبط السلوك وتقوية الإرادة في مواجهة الرغبات المحرمة والسعي إلى تحقيق الفضائل الأخلاقية. ويستدل بعض العلماء بالحديث المشهور:

“رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” ــ أي جهاد النفس.

وإن كان الحديث مختلفًا في صحته إلا أنّ معناه أقرّه جمهور المسلمين، وهو أنّ الوصول إلى تهذيب النفس وضبطها وتحريرها من قبضة الأهواء قد يكون أكثر مشقة من حمل السلاح في المعركة، كما أنه أكثر استمرارية على مدار حياة المسلم. لهذا سُمِّيَ بالأكبر لأنّه مستمر لا ينقطع، بينما قد تنقطع ظروف القتال.

وفي التصوّف الإسلامي، مثلًا، نجد تركيزًا كبيرًا على مجاهدة النفس وتقويمها على الأخلاق الرفيعة وأخلاق الزهد والتقوى والتواضع وحسن المعاملة مع الخلق، وعدُّوا ذلك لبّ الإسلام الذي يعود إليه كلُّ شيء. يقول العارفون إنّ من انتصر على شهواته وأهوائه، بات جهاده في ساحة المعركة ــ إن اضطر ــ جهادًا نبيلاً موزونًا بقيم أخلاقية، فلا يظلم ولا يقتل الأبرياء، بل يقاتل بيدٍ تدافع عن الحق، وقلبٍ يرحم ويعفو حين يستطيع.

3.2 الجهاد الأصغر (القتال المشروع بضوابطه)

يأتي ما يسمى “الجهاد الأصغر” أو جهاد القتال في الإسلام خطوة تالية بعد استنفاد الوسائل السلمية، ولا يُشرَع إلا دفاعًا عن النفس وردًّا للعدوان أو لمنع الاضطهاد الديني، وقد وضع القرآن لذلك ضوابط صارمة، منها:

  1. وجود عدوان أو ظلم ملموس: فلا يُقاتَل الآخر لمجرد الكفر أو لاختلاف عقيدته. قال تعالى: “وَقَـٰتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ” (البقرة: 190)، وقوله أيضًا: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا۟ ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ” (الحج: 39).
  2. الدفاع أو ردّ المعتدي: “وَلَا تَعْتَدُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ” (البقرة: 190).
  3. عدم قتل غير المقاتلين: يشمل ذلك النساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين في دور عبادتهم، بل وجمهور الفقهاء يحرّمون التعرض للحيوانات أو الحقول، استنادًا لأحاديث نبوية وأوامر واضحة من الخلفاء الراشدين.
  4. وقف القتال عند انتهاء العدوان: “فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة: 193).
  5. وجوب إعلان الحرب على نحوٍ واضح وعدم المباغتة بالغدر والخيانة: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (الأنفال: 58).
  6. قبول الصلح عند رغبة العدو بالسلم: “۞ وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ (الأنفال: 61).

وقد تميزت السيرة النبوية بمجموعة من المواقف والوثائق ــ مثل صحيفة المدينة ــ التي رسَّخت قيم التعارف والتعايش المشترك مع غير المسلمين، وعدم الاحتكام إلى السلاح إلا عند الضرورة.


الفصل الرابع: الجهاد في السياق التاريخي للإسلام

4.1 الجهاد في العهد النبوي (مكة والمدينة)

  • المرحلة المكية: في مكة، استمر المسلمون ثلاث عشرة سنة يتعرضون للاضطهاد والتعذيب من قريش. ولم يأذن الله لهم بالقتال خلال هذه الحقبة، بل كان الأمر الإلهي: “فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (الحجر: 85)، “وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًۭا فِى ٱلْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًۭا فِى ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُم بِـَٔايَةٍۢ ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ” (الأنعام: 35). وكان المسلمون قلة مضطهدة لا تملك القوة للدفاع عن نفسها، ومع ذلك صبروا دون أن يُشَرَّع القتال لهم.

  • المرحلة المدنية: هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة، حيث أقام النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعًا تعدديًا بالتحالف مع قبائل يهودية وأخرى وثنية. في السنة الثانية للهجرة، نزل الإذن الإلهي بالقتال: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا” (الحج: 39). وفي هذه الفترة، كانت معارك بدر وأحد والخندق وغيرها، وكلها معارك دفاعية ردًا لعدوان قريش أو حلفائها. ويظهر ذلك في وقعة بدر التي كانت بمنزلة محاولة اعتراض قريش لعودة المسلمين الذين نجوا بأنفسهم وأموالهم بعد سنوات من المصادرة والاضطهاد.

في فتح مكة لاحقًا، ضرب النبي محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التسامح والعفو، إذْ أعلن عفوًا عامًا عن أهل مكة ــ وكانوا قد نكَّلوا بالمسلمين طوال سنوات ــ قائلًا: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وهو موقف يعكس أنَّ مقصد الإسلام ليس سفك الدماء أو الانتقام، بل إزالة الحواجز التي تمنع الناس من سماع كلمة الحق دون إكراه.

4.2 الخلافة الراشدة وتوسعات المسلمين

في فترة الخلفاء الراشدين، اتسعت رقعة الأراضي الإسلامية، ودخل كثير من الناس في الإسلام. لكنّ المؤرخين يشيرون إلى أن كثيرًا من هذه الفتوحات كان جزءًا من صراعات سياسية ــ عسكرية واسعة في المنطقة، إذْ كانت الدولة الإسلامية الناشئة تجد نفسها أمام إمبراطوريات ضخمة كالفُرس والروم، وكانت المعاهدات كثيرًا ما تُنقَض؛ ما جعل المسلمين في سياق حروب إقليمية.

غير أن المؤرخين أيضًا يؤكدون أنّ جيوش المسلمين حين دخلت بلادًا مفتوحة، فُتِحَ الباب لأصحاب الديانات الأخرى للإبقاء على دينهم مقابل دفع “الجزية” بوصفها ضريبة دفاعية وسياسية توازي ضريبة الزكاة التي يلتزم بها المسلمون. ولم يتعرض المسلمون لمعابد غير المسلمين وكنائسهم، وقد كتب عمر بن الخطاب لأهل القدس عهدًا بحماية مقدساتهم. وهذا كله يشير إلى وجود فهم أوسع للجهاد بوصفه مشروعًا سياسيًّا ــ دفاعيًّا في آن، لا يرمي إلى الإكراه الديني، وإن كانت بعض الممارسات العملية قد خالفت تلك المبادئ هنا أو هناك.

4.3 تكوّن مفهوم “دار الإسلام” و“دار الحرب” و“دار الصلح”

تقليديًّا، قسّم بعض الفقهاء المسلمون العالم إلى:

  1. دار الإسلام: الإقليم الذي يسود فيه حكم الشريعة ويستطيع المسلمون ممارسة شعائرهم بحرية.
  2. دار الحرب: الإقليم الذي يُفترض أنه معادٍ للمسلمين أو يحاربهم فعليًّا أو يمنعهم من حرياتهم الدينية.
  3. دار الصلح: الإقليم أو الدولة التي تكون في علاقة سلمية مع دار الإسلام عبر معاهدة أو اتفاقية، بحيث لا تعادي المسلمين ولا تمنعهم من ممارسة دينهم.

يُفترض في هذا التقسيم أنّ “الجهاد العسكري” لا يباح إلا في حالة الحرب أو العدوان (دار الحرب). وقد أدّى هذا التقسيم دورًا في الفقه الإسلامي الكلاسيكي، ولكن في السياق المعاصر، ومع ظهور الدول القومية والمعاهدات الدولية، والمفاهيم الحديثة للسيادة والقانون الدولي، بات بعض الفقهاء والعلماء المعاصرين يرون أنّ هذه التقسيمات ليست بالضرورة تعكس واقع العلاقات الدولية الحالي، لا سيما عندما تكون العلاقات قائمة على الاعتراف المتبادل والسلام.

4.4 عصر الركود وصعود فكرة “الجهاد التوسعي”

شهدت بعض فترات التاريخ الإسلامي ــ في عصر الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية ــ توسعات كبرى، وكان هناك من يبرر تلك الحروب أو حملات التوسّع سياسيًّا باسم “الجهاد” سعيًا لضم مناطق جديدة. وقد جرت خلافات فقهية في مدى شرعية “الجهاد الهجومي” الذي يبتدئ به المسلمون غيرهم. وقد تباينت آراء الفقهاء في ذلك:

  • فريق من العلماء رأى أنّ الأصل في الجهاد هو الدفاع، لكن قد يباح “الجهاد الهجومي” في حالة استباق خطر داهم أو كسر شوكة دولة تضطهد المسلمين في أراضيها أو تسعى إلى القضاء على الوجود الإسلامي.
  • فريق آخر، لا سيما من المتصوفة وبعض الفقهاء الأوائل، أصرّوا على أنّ الإسلام لا يُشرَع فيه القتال إلا للضرورة الدفاعية الصرفة، وأنّ حروب التوسع إنما تندرج في الأغلب ضمن ظروف سياسية أو طموحات دولية وليست “فرضًا شرعيًّا” بالمعنى الدقيق.

هذا الانقسام استمر لقرون طويلة في الساحة الفكرية الإسلامية، وقد أدخل بعض الخلفاء والسلاطين مفهوم الجهاد في إطار دعائي لتعبئة الجيوش.


الفصل الخامس: الجهاد في العصر الحديث ومقاربات المفكرين الإصلاحيين

5.1 بروز التيارات التحديثية والنهضوية في العالم الإسلامي

مع دخول العصر الحديث، وتحديدًا منذ مطلع القرن التاسع عشر، بدأت حركات إصلاحية وتجديدية في مصر والهند والدولة العثمانية وغيرها، وذلك على يد علماء ومفكرين مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، وفي الهند كان هناك السيد أحمد خان وشيراغ علي وغيرهم. وقد طَرَحَ هؤلاء مفهومًا مختلفًا للجهاد، يركّز على:

  1. الجهاد الاجتماعي والتربوي: من خلال التعليم ومحاربة الجهل والأمية وتحديث المجتمعات الإسلامية لتواكب العصر.
  2. الجهاد ضد الاستعمار: باعتباره دفاعًا عن الأوطان والهوية أمام عدوان القوى الاستعمارية الأوروبية.
  3. التفريق بين “القتال” الدفاعي و“القتال” التوسعي: مع تأكيدهم أن القتال لا يكون مشروعًا إلا في ظل اضطهاد واضح أو هجوم ملموس.

على سبيل المثال، رأى المفكر التحديثي الهندي “شيراغ علي” أنّ كثيرًا من الفقهاء التقليديين أساؤوا فهم النصوص المتعلقة بالقتال، وأنّها مشروعة فقط في الدفاع لا في الهجوم. وأكّد أنّ سياقات القرن الأول والثاني الهجري ــ حين انخرط المسلمون في حروب مع الإمبراطوريات المجاورة ــ فرضت قراءات معينة تبالغ في توسيع دائرة “الجهاد العسكري”. ويرى أيضًا أنّه من الواجب اليوم إعادة النظر في تلك التفسيرات لتتوافق مع الأصول القرآنية التي تحصر القتال في رد العدوان.

5.2 الشيخ محمد عبده والإمام محمد شلتوت

من بين مَن عالجوا موضوع الجهاد في العصر الحديث الشيخ محمد عبده (ت 1905م) والإمام الأكبر الشيخ محمد شلتوت (ت 1963م) شيخ الأزهر. رأى شلتوت ــ على سبيل المثال ــ أنّ الآيات القرآنية التي تتحدث عن قتال الكافرين إنما تشير إلى حالات خاصة “ظرفية” مرتبطة بنقض العهد والعدوان، وليست تشريعًا مطلقًا في كل زمانٍ ومكان. وشدّد على أنَّه لا يصح تعطيل الآيات القرآنية الداعية إلى السلم والتسامح والتعايش بدعوى “النسخ”، وحثَّ المسلمين على ضرورة القراءات الموضوعية للقرآن كلها مجتمعة.

5.3 عبد الله النعيم ومحمود محمد طه: جدلية المكي والمدني

برز أيضًا المفكر السوداني عبد الله النعيم متأثرًا بأفكار أستاذه الراحل محمود محمد طه الذي أعدم في الثمانينيات من قبل حكومة السودان بتهمة الرِّدة. جادل طه أنّ الآيات المكية التي تشدد على الصبر والتسامح هي الأساس الموجَّه للأمة في كل عصر، أمّا آيات القتال المدنية فإنها نزلت لظروف تاريخية وسياسية خاصة بالقرن السابع الميلادي، ولا ينبغي إطلاقها على عمومها. رأى طه أنّ “الجهاد” المعاصر يتركز في مقارعة الظلم ورفع الوعي وإعلاء القيم الأخلاقية والروحية، وليس في حمل السلاح إلا دفاعًا عن النفس في حالة الاضطهاد.

رغم الخلاف الكبير حول منهجية طه والنعيم ــ خصوصًا من زوايا أصولية ــ فإنّ طرحهما يعكس محاولة لإعادة صياغة مفهوم الجهاد في ضوء المتغيرات العالمية الحديثة وقيم حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد، وقد وجد هذا الطرح تأييدًا لدى تيار واسع من “الإسلاميين التقدميين” الذين يحاولون التوفيق بين النصوص التراثية ومبادئ الحداثة.

5.4 المفكر الإسلامي جودت سعيد

من بين المفكرين الإصلاحيين البارزين في العصر الحديث، يأتي جودت سعيد، وهو مفكر إسلامي سوري اشتهر بتأكيده على النهج السلمي في الإسلام. يرى سعيد أن الجهاد بمعنى القتال لا يمكن أن يكون مشروعًا إلا وفق شروط صارمة تضمن أنه لا يتحول إلى وسيلة للعنف غير المشروع أو الفوضى. ومن أهم شروط الجهاد عنده:

  1. العدالة والمشروعية: يجب أن يكون الجهاد مرتبطًا بأهداف عادلة، وليس مجرد أداة لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية.
  2. إعلان الجهاد من سلطة شرعية راشدة معترف بها: لا يجوز لأي مجموعة أو فرد أن يعلن الجهاد من تلقاء نفسه، بل يجب أن يكون القرار صادرًا عن جهة شرعية راشدة متفق عليها معترف بها.

وقد أوضح جودت سعيد في كتاباته التمييز بين الجهاد في مرحلة بناء الدولة والجهاد بعد ذلك، وذلك في سياق رده على الشبهات المثارة حول مفهوم اللاعنف وعلاقته بالجهاد المسلح. وأكد سعيد أن الجهاد في مرحلة بناء الدولة أو إقامة الحكم الراشد والديمقراطية يجب أن يكون سلمياً بالكامل، إذ لا يجوز الوصول إلى السلطة عبر القوة أو العنف، لأن “ما أُخذ بالسيف، بالسيف يهلك”. ويرى سعيد أن التغيير بالعنف لا يؤدي إلى إصلاح حقيقي في المجتمع، بل يستبدل ظالماً بآخر، دون إحداث تحول جوهري في بنيته. واستدل على ذلك بسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، حيث منع أصحابه من الدفاع عن أنفسهم خلال المرحلة المكية، ولم يسمح لهم باستخدام السلاح إلا بعد أن تشكل مجتمع المدينة القائم على القناعة والإقناع، وليس على القوة. وعندما أصبح هذا المجتمع الراشد قائماً، كان لزاماً عليه الدفاع عن المظلومين وحماية استقراره وسلامته.


الفصل السادس: مفهوم “الحرب العادلة” والمقارنة مع الفكر المسيحي واليهودي

6.1 الجهاد بوصفه “حربًا عادلة”

كثير من الباحثين الغربيين المعاصرين في الدراسات الإسلامية ــ مثل جون إسبوزيتو وداليا مجاهد وغيرهما ــ يقارنون مفهوم الجهاد في الفقه الإسلامي بفكرة “الحرب العادلة” (Just War) في التراث المسيحي الكاثوليكي الذي تبلور في أوروبا في القرون الوسطى. وتشير قواعد “الحرب العادلة” في التراث المسيحي الغربي إلى:

  1. وجود “سبب عادل” (Just Cause).
  2. إعلان الحرب من سلطة شرعية.
  3. أن تكون النية أخلاقية وليست للانتقام أو الطمع.
  4. أن يُفاضل بين المصالح والمفاسد لتجنب الأضرار البالغة بالمدنيين.
  5. أن يُوقف القتال عند زوال الظلم أو الاعتداء.

وهذا يقابل بشكل كبير الشروط التي وضعها الفقه الإسلامي للكفاح المسلح. وقد لفت علماء مسلمون حداثيون الانتباه إلى هذه الجوامع المشتركة، مؤكدين أنّ الإسلام لم يبتدع نظرية حربية منفلتة من عقال الأخلاق، بل وضع نظامًا دقيقًا لضبط أي سلوك قتالي وفق القيم الإنسانية والشرعية.

6.2 الكروسيد أو الحملات الصليبية: مثال للمقارنة

يشير الباحثون ــ ومنهم البروفيسور رولان ميللر ــ إلى مفهوم “الكروسيد” أو “الحملات الصليبية”، وكيف أنّ لها هي الأخرى طيفًا واسعًا من المعاني لدى المسيحيين. ففي تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، كانت “الحملة الصليبية” تدلّ على حروب دينية دامية، لكنها في الخطاب المعاصر قد تعني حملات سلمية لرفع الظلم أو مكافحة الفقر (مثل قولهم: “حملة صليبية ضد الأمية”). وهذا يشابه تعددية مفهوم الجهاد في اللغة العربية، والذي قد يعني حمل السلاح في معركة عادلة، أو قد يعني بذل الجهد في أي شأن مشروع أخلاقيًّا. كما وجّه ميللر الانتباه إلى أنّ المسلمين حين يسمعون كلمة “صليبية” يستحضرون تاريخًا دمويًّا مريرًا؛ تمامًا كما يحدث حين يسمع غير المسلمين كلمة “جهاد”، ويستحضرون صور التطرف والإرهاب، وهي صور منتزعة من سياقات معينة.


الفصل السابع: التشويه والتوظيف الخاطئ لمفهوم الجهاد

7.1 من الداخل الإسلامي: الجماعات المتشددة

في العقود الأخيرة، اختطفت جماعات متطرفة كتنظيم القاعدة وداعش وبوكو حرام وجماعات أخرى مصطلح “الجهاد”، وحوَّلته إلى أداة لتبرير العنف الأعمى والإرهاب الذي يستهدف المدنيين الأبرياء ويقتل المسلمين وغير المسلمين على حدٍّ سواء. هذه الجماعات تتجاهل النصوص الواضحة التي تحرّم قتل غير المقاتلين، وتتجاهل ضرورة توفر سلطة شرعية معتبرة لإعلان الجهاد، وأن يكون القتال في مصلحة الأمة وحماية المستضعفين.

كما أنها لا تستجيب لمبدأ “وَلَا تَعْتَدُوٓا۟ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ” (البقرة: 190) و “وَلَا تَقْتُلُوا۟ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۚ” (الأنعام: 151)، بل تستبيح الدماء على نحو يخالف تمامًا المبادئ الأخلاقية الإسلامية. وقد أصدر علماء وباحثون ومرجعيات في أرجاء العالم الإسلامي فتاوى عديدة تُكفّر أو تُبدِّع أو تُضلِّل هذه الجماعات، وتنفي عنها أي شرعية دينية.

7.2 من الخارج الغربي: التوظيف السياسي والإعلامي

في المقابل، يسود في الإعلام الغربي والإنتاج السينمائي والروائي نوعٌ من التحامل أو التعميم السلبي حين تصوير “الجهاد” بوصفه مرادفًا للإرهاب. وغالبًا ما يتجاهل الإعلام السائد في الغرب الفرق بين “الجهاد الأكبر” و“الجهاد الأصغر”، أو البعد الدفاعي للجهاد، ويُركّز فقط على صورة المتشددين. ولا شك أنّ هناك تأثيرًا سياسيًّا وأيديولوجيًّا لبعض الجهات التي ترغب في تضخيم هذا الخطأ، لتعزيز “الإسلاموفوبيا” ومعاداة المسلمين.

ولعل إحدى أكبر الإشكاليات تكمن في استغلال بعض الأحداث الإرهابية التي ارتكبها متطرفون مسلمون ــ مثل تفجيرات 11 سبتمبر 2001 ــ لاختزال “الجهاد” في تلك الجرائم بحق الإنسانية، في حين كانت المؤسسات الإسلامية في الأزهر وغيرها قد أدانت تلك الأفعال إدانة قاطعة، واعتبرتها خروجًا سافرًا على قيم الإسلام وتعاليمه.


الفصل الثامن: الشروط الأخلاقية والفقهية لمشروعية “الجهاد القتالي”

8.1 ضوابط الجهاد الأصغر في الشريعة الإسلامية

لتصحيح المفاهيم المغلوطة، من الأهمية بمكان توضيح القواعد الشرعية والأخلاقية للجهاد، وأبرزها:

  1. شرط الدفاع: أن يكون المسلمون قد تعرضوا لعدوان أو لظلم واضح يمنعهم من ممارسة دينهم أو يعتدي على أراضيهم وحرماتهم.
  2. شرط السلطة الشرعية: إعلان الحرب لا يكون من قبل أفراد أو جماعات منعزلة، بل من قبل سلطة راشدة، أي سلطة دولة (وليس جماعة أو فرقة أو طائفة …) أتت بالتوافق وليس بالطغيان والانقلاب العسكري. وهذا الشرط شدد عليه كثيرا المفكر الاسلامي اللاعنفي جودت سعيد وإلا يكون القتالُ قتالَ خوارج.
  3. تحريم قتل غير المقاتلين: فمن أساسيات الشريعة تحريم قتل النساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين في كنائسهم ومعابدهم والأسرى الذين لا يقاتلون.
  4. عدم قطع الأشجار أو إفساد البيئة: وردت نصوص عديدة في التراث الإسلامي تحث المقاتلين المسلمين على عدم الإفساد في الأرض أو تعذيب الحيوانات أو تدمير البيئة بغير مسوّغ.
  5. المعاملة الحسنة للأسرى: وذلك إن تم أسر مقاتلين، فالخيار بين المنّ عليهم أو فدائهم أو مبادلتهم، مع تأكيد الإحسان إليهم وعدم تعذيبهم.
  6. الدعوة إلى الصلح: إذا رغب العدو المسلّح بالمصالحة، فعلى المسلمين الاستجابة وعدم متابعة القتال.

8.2 العلاقة بين الجهاد الأصغر والأكبر

كما أشرنا، الجهاد الأصغر (القتال) مشروط بأن يرتبط بقيم الجهاد الأكبر، أي جهاد النفس وضبطها والتحلّي بالشجاعة والحلم والعدل، فلا يقاتل المسلم وفي قلبه حقدٌ أو رغبة في الانتقام. ويجب أن يكون دافعه هو تحقيق العدالة ورفع الظلم، لا المصالح الشخصية أو الفئوية أو الطائفية. وفي ذلك يقول أحد الأئمة: “لا تُقاتِل لِتُقال إنك بَطَل، ولا لتُنقِم لنفسك، ولكن قاتِل لإحقاق الحق وإبطال الباطل”.


الفصل التاسع: تنوع مفهوم الجهاد في الواقع الإسلامي المعاصر

9.1 استبيانات واستطلاعات الرأي في الدول الإسلامية

تشير بعض الاستطلاعات الحديثة التي أُجريت في عدد من الدول الإسلامية إلى أنّ مفهوم “الجهاد” لدى كثير من العامة لا يرتبط مباشرة بالعنف، بل ينظرون إليه بوصفه “واجبًا دينيًّا” أو “نضالًا أخلاقيًّا”، بينما يرى آخرون أنه “دفاع مشروع عن الدين” أو “التزام أمام الله”. وفي استطلاع ذكره جون إسبوزيتو وداليا مجاهد، لوحظ أنّ المواطنين في دول عربية كلبنان والأردن والمغرب يفهمون الجهاد غالبًا أنه “بذل الوسع في الطاعة” أو “النضال الأخلاقي”.

وحتى في الدول غير العربية، كتركيا وإيران وباكستان، يختلط مفهوم الجهاد عند نسبة من الناس بمعنى “التضحية في سبيل الله” و“الدفاع ضد الظلم”. بينما في إندونيسيا ــ رغم أنها معروفة بالإسلام المعتدل ــ ظهرت نسبة أكبر تفسره بوصفه “قتالًا حربيًّا”. وهذا يبين أنّ هناك اختلافات ثقافية وتاريخية في فهم الجهاد من مجتمع لآخر.

9.2 الجهاد كجهد تنموي واجتماعي

في العصر الحديث، لجأت بعض الدول الإسلامية إلى توظيف مصطلح “الجهاد” في حملات اجتماعية أو اقتصادية أو تعليمية، مثل “جهاد البناء” أو “جهاد التنمية” كما حصل في إيران بعد الثورة عام 1979، حيث نشأت مؤسسة تُسمى “جهاد البناء” (jihad-i-sazandigi)، تهدف إلى إعادة إعمار المناطق الريفية وتأمين مساكن لذوي الدخل المحدود. وبالمثل، استخدم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة مصطلح “الجهاد” للإشارة إلى الجهود المبذولة للقضاء على التخلف الاقتصادي.

هذه الاستخدامات تعكس البعد اللغوي الرحب لكلمة الجهاد وتؤكد أن الكفاح من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع عموماً هو ضرب من ضروب الجهاد في الإسلام.

9.3 النقاش حول التفجيرات الانتحارية

من المواضيع التي أثارت جدلًا واسعًا في العقود الأخيرة؛ مسألة التفجيرات الانتحارية وكيف تبررها بعض الجماعات الإرهابية باسم “الاستشهاد في سبيل الله”. إنّ الانتحار في الإسلام محرم تحريمًا قاطعًا بنص الحديث: “من قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة” (رواه البخاري)، وكذلك بنص الآية: “وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًۭا” (النساء: 29). وبالتالي لا يمكن تبرير قتل النفس عمدًا.

كما أنه لا يجوز قتل الأبرياء والمدنيين، حتى لو كان الهدف ــ زعمًا ــ “جهاديًّا” للدفاع ضد احتلال أو ظلم ما. صحيح أنّ بعض الفقهاء أحدثوا جدلًا حول “العمليات الاستشهادية” في حالة نضال تحرري محدد كتلك التي تحدث في سياق صراع مع احتلال عسكري مباشر، لكن حتى في هذه الحالة يضع الفقهاء المعاصرون ضوابط وشروطًا مشددة كي لا يختلط الأمر بقتل المدنيين العزّل أو يجرّ إلى فوضى تسفك فيها الدماء دون تمييز. ولا يزال هذا الموضوع محل جدل ساخن بين تيارات مختلفة في العالم الإسلامي.


الفصل العاشر: تحديات reinterpretation وإعادة قراءة النصوص

10.1 ظاهرة النصوص “الناسخة والمنسوخة”

لجأ فقهاء ومدارس تقليدية في فترة من التاريخ الإسلامي إلى القول بأن بعض آيات السلم قد نُسِخت أو ألغيت بآيات القتال، كاستدلالهم بالآية “فَٱقْتُلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُوا۟ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍۢ ۚ” (التوبة:5) على أنها ألغت كل آيات التسامح السابقة. لكنّ كثيرًا من العلماء والمفسرين المحدثين ــ مثل الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ شلتوت وغيرهما ــ رفضوا هذا التوسع في دعوى النسخ، ورأوا أنّ النسخ لا يثبت إلا بدليل قطعي. وأكدوا أن آيات السلم لم تُلغَ، بل هي باقية ومحكمة، وأن آيات القتال مختصة بأحوالٍ وسياقات معينة.

10.2 التعارض الظاهري بين الآيات

قد يواجه القارئ غير المتخصص آيات قرآنية تبدو متعارضة، بعضها يدعو إلى القتال، وبعضها يدعو إلى الصفح والعفو. لكنّ التفسير السليم يزيل هذا التعارض الظاهري بوضع كل آية في سياقها التاريخي والسببي، وفهم مقاصد الشريعة في تحقيق العدل وحماية المجتمع وإعلاء الأخلاق. ومن هنا، فإن “القتال” ليس مقصدًا في ذاته، إنما هو وسيلة اضطرارية لحفظ الحياة والنظام، بينما “السلم” هو الأصل.


الفصل الحادي عشر: الجهاد في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

11.1 مقاصد الشريعة الكلّية

يرى علماء المقاصد في الإسلام ــ أمثال الإمام الشاطبي (ت 790هـ) وابن عاشور في العصر الحديث ــ أنّ الشريعة جاءت لحفظ خمسة أشياء: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وقد أضاف بعض المحدثين كالدكتور الطاهر بن عاشور حفظ الحرية والكرامة الإنسانية ضمن هذه المقاصد. وإذا نظرنا إلى أحكام الجهاد في ضوء هذه المقاصد، يتضح أن التشريع إنما يرمي إلى:

  1. حفظ الدين: بتوفير الحرية الدينية للمسلمين وغيرهم.
  2. حفظ النفس: بتشريع القتال للدفاع عن النفس وصدّ المعتدي، لا لأجل العدوان.
  3. حفظ العِرض: حيث يتعرض المسلمون المعتدى عليهم إلى انتهاك الأعراض.
  4. حفظ المال: بتحريم نهب أموال الآخرين.
  5. حفظ الكرامة: إذ إن بعض الحالات تقتضي الدفاع ضد العبودية أو الإذلال.

وعليه، يصبح الجهاد وسيلة لحماية هذه المقاصد ضد أي عدوان أو ظلم، لا وسيلة إكراهٍ وقتلٍ عشوائيٍّ.

11.2 مفهوم “رفع الظلم” في الإسلام

يشير القرآن الكريم بوضوح إلى أن أحد أوجه مشروعية القتال هو “رفع الظلم”:

“وَمَا لَكُمْ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّۭا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا” (النساء: 75).

كما يرد في آية أخرى:

“أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا۟ ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ “ (الحج: 39).

وهذا يبين أن “الجهاد” ــ إن اتخذ صورة القتال ــ فهو في أساسه وسيلة دفاعية لاستعادة الحقوق ومقاومة القمع. بل إن التضحية والفداء من أجل حرية الآخرين (حتى لو كانوا غير مسلمين) تندرج تحت هذا البند إن كانوا مستضعفين مظلومين.

11.3 الترجمة العملية للمقاصد في الفقه الحديث

في ضوء هذه المقاصد، اجتهد بعض الفقهاء المعاصرين في وضع إطار جديد لإعلان “الجهاد العسكري”، بحيث يقترب من قوانين الحرب الحديثة، ولا يتم إلا في حال الدفاع المشروع أو لدفع ظلم مستشري، مع الالتزام الكامل بالقواعد الأخلاقية التي تمنع الانزلاق إلى انتهاك حقوق الإنسان. وفي زمن توافرت فيه المنظمات الدولية والآليات السلمية لحل النزاعات، ينادي هؤلاء الفقهاء بضرورة استنفاد كافة السبل الدبلوماسية قبل اللجوء إلى خيار الحرب.


الفصل الثاني عشر: نماذج تطبيقية تاريخية للجهاد المشروع

12.1 فتح مكة: النموذج النبوي

عندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا بعد سنوات من النفي والظلم، لم يدخلها بوصفه منتقمًا، بل فتحها بغير قتال يذكر إلا ما كان من مقاومة محدودة. وأعلن عفوًا عامًا شمل حتى الذين حاربوا المسلمين. وقال لأهل مكة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وفي ذلك أبلغ مثال على أنّ “الجهاد” في الإسلام ليس إهلاكًا للأعداء دون تمييز، بل هو عمل أخلاقي يراعي العلاقات الإنسانية.

12.2 معاملة الخليفة عمر لأهل القدس

عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس، وقع “العهدة العمرية” الشهيرة، والتي كفل فيها حماية الكنائس والأديرة والممتلكات لغير المسلمين. ولم يجبر أحدًا على الدخول في الإسلام. وتُروى قصص كثيرة عن تواضع عمر وعدله في تلك الزيارة، حتى إنه رفض أن يصلي في كنيسة القيامة كي لا يتخذها المسلمون مسجدًا فيما بعد. هذا يؤكد أنّ الجهاد جاء ليرفع الظلم وليس لفرض الدين قسرًا.

12.3 الحروب ضد الخوارج والفرق المارقة

في التاريخ الإسلامي المبكر، ظهرت جماعات مثل الخوارج الذين مارسوا الإرهاب الفكري والعنف ضد المسلمين، فاغتالوا أمير المؤمنين عليًّا بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا يستبيحون دماء مخالفيهم. اضطُرَّت الدولة الإسلامية الناشئة ــ رغم ميلها للسلام الداخلي ــ إلى التصدي لهم عسكريًّا بعد أن جربت معهم الحوار. وقد برّر الفقهاء هذا القتال بأن الخوارج تمرّدوا على السلطة الشرعية وأفسدوا في الأرض وقتلوا الأبرياء، فكان قتالهم شكلًا من أشكال “الجهاد” للدفاع عن أمن المجتمع واستقراره.


الفصل الثالث عشر: نقد التفسيرات المتشددة والرد عليها

13.1 تفسيرات الحرفيين وتحميل النص ما لا يحتمل

يأخذ بعض المتشددين نصوصًا قرآنية أو نبوية جزئية ذات طبيعة قتالية ويُعمِّمونها على كل زمان ومكان، دون اعتبار للسياق أو لأسباب النزول. ومثالهم في ذلك الاستدلال بآية السيف في سورة التوبة، واختزال كل تشريع القرآن فيها، بدعوى أنها “نسخت” كل آيات الرحمة والتسامح. ومما لا شك فيه أنّ هذا المنهج يفتقر إلى قواعد الأصول والتفسير المعتمدة، ويصطدم بمقاصد الشريعة الكلية في الحرية والعدالة ورحمة الخلق.

13.2 الخلط بين المواقف السياسية والمبدأ الديني

كثيرًا ما تتلبس مواقف سياسية بمصلحة حزبية أو شخصية في رداء ديني. فيدّعي أصحابها أنهم “يجاهدون”، بينما في واقع الأمر قد يكونون يطمعون في السلطة أو في مكاسب مادية أو شهرة. والأمثلة على ذلك كثيرة في القرون المتعاقبة من تاريخ المسلمين. ونجد أنّ الإسلام يشترط “النية” ويشدد عليها؛ فالقتال إن كان لغير الله أو في سبيل العصبية ليس من الجهاد في شيء، بل هو “فتنة” أو “بغي” يستوجب الوقوف ضده.


الفصل الرابع عشر: الخطاب الغربي عن الجهاد وتصحيح التصورات

14.1 أسباب الالتباس في الوعي الغربي

تعود أسباب الالتباس في الوعي الغربي عن مفهوم الجهاد إلى:

  1. الإرث التاريخي للحروب الصليبية: إذ رسَّخت صورة أن العلاقة مع الإسلام علاقة صراع ديني مستمر.
  2. استغلال جماعات متطرفة للإعلام: إذ تُصدر هذه الجماعات بياناتها وتصوّر أعمالها على أنها “جهاد” لتنشر الرعب.
  3. القوالب الإعلامية: ترويج وسائل الإعلام الغربية لصورة “إرهابي مسلم جهادي” دون تمحيص كاف أو تمييز دقيق.

14.2 سبل التصحيح

يتطلب تصحيح الصورة الغربية عن الجهاد جهودًا مشتركة من مفكرين ومؤسسات إسلامية تبين الحقيقة المعرفية للمفهوم، بالتعاون مع باحثين غربيين منصفين لديهم استعداد لدراسة النصوص في سياقها. ويمكن لوسائل الإعلام والجامعات ومراكز الحوار بين الأديان أن تلعب دورًا محوريًّا في نشر الوعي الصحيح بقيم الإسلام الأخلاقية وسعة أفقه التشريعي.


الفصل الخامس عشر: مستقبل مفهوم الجهاد في ظل تحديات العولمة

15.1 تطور المنظور الإسلامي لمسألة السلم العالمي

يعيش العالم اليوم مرحلة عولمة معقدة، وتداخل ثقافي واقتصادي وأمني لم يسبق له مثيل. ومع نشأة كيانات دولية ومنظمات أممية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، والمبادئ الحقوقية العالمية، بات على المفكرين المسلمين أن يعيدوا صياغة مفهوم الجهاد وفقًا لروح العصر وضروراته، وبما لا يتعارض مع ثوابت الإسلام.

يرى كثير من فقهاء العصر أنَّ الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي تُجنّب البشرية ويلات الحروب هو ضربٌ من ضروب “الجهاد” بمعناه الشامل. فالآليات الحديثة للمفاوضات وحل المنازعات قد تُغني عن اللجوء إلى الحرب في معظم الأحيان، وتفتح المجال لتأكيد كون “الجهاد” الأساس في الإسلام هو جهاد البناء والتنمية ورفع شأن الإنسان.

15.2 دور المنظمات الإسلامية في نشر الفهم الصحيح

في العقود الأخيرة، برزت منظمات إسلامية عالمية مثل منظمة التعاون الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، والأزهر الشريف، ومجالس الفتوى المتعددة، وأصدرت عدة بيانات وفتاوى جماعية تستنكر العنف والإرهاب باسم الدين، كما تدعو للاحتكام إلى مبدأ السلم والعدالة. ومن نماذج ذلك البيانات التي صدرت عقب أحداث 11 سبتمبر، التي تدين تلك العمليات، وتؤكد أن الإسلام بريء منها، وأن منفذيها ليسوا “مجاهدين”، بل معتدون مخالفون للشرع.


الفصل السادس عشر: خلاصات واستنتاجات

بعد هذا الاستعراض المطول لكل الأبعاد والمراحل التاريخية والفقهية والفكرية المتعلقة بمفهوم الجهاد في الإسلام، يمكن تلخيص أهم النقاط كالتالي:

  1. الجهاد مفهومٌ واسعٌ يشير أساسًا إلى بذل الجهد في طاعة الله وتحقيق أهداف إنسانية راقية، وهذا يشمل الجهاد الروحي في مقاومة الشهوات والأهواء (الجهاد الأكبر)، والجهاد المجتمعي في التصدي للظلم والفساد، والجهاد التربوي في نشر العلم وبناء الأجيال، والجهاد التنموي في إصلاح شؤون الناس، وغير ذلك من ألوان “النضال” السلمي.

  2. القتال في الإسلام ــ المُسمّى بالجهاد الأصغر ــ جزءٌ محدودٌ من كل هذه المنظومة، وهو لا يخرج عن إطار الدفاع عن النفس أو صدّ العدوان أو إنهاء الاضطهاد الذي يمنع الناس من حرية المعتقد، ويجب أن يخضع لسلسلة من الضوابط الأخلاقية والقانونية الصارمة.

  3. لا إكراه في الدين مبدأٌ قرآني صريح. فليست غاية الجهاد نشر الإسلام بالقوة، بل رفع الظلم وتمكين الناس من حرية الاختيار والعبادة. وكل التفسيرات التي تدعي أنّ الإسلام “انتشر بالسيف” تُنافي النص القرآني وعديد الوقائع التاريخية التي تُثبت عكس ذلك.

  4. تأثَّر مفهوم الجهاد بسياقات تاريخية وسياسية في فترات عديدة، مما سمح بتأويلات خاطئة أو مُسيَّسة. وقد شاعت لدى بعض الفقهاء الكلاسيكيين أقوال تبرر توسيع رقعة الدولة الإسلامية، فمزجوا بين الدين وأهداف السياسة، في حين بقي جمهور كبير من العلماء عبر القرون يُقر بأنّ الأصل في الإسلام هو السلم والصلح.

  5. الجماعات المتطرفة التي ترفع شعار “الجهاد” إنما تشوه المفهوم وتنتقي من النصوص، وتتجاهل الضوابط الشرعية. ولا تحظى هذه الجماعات عادةً بتأييد كبار العلماء ولا بعامة المسلمين، وتحذر المؤسسات الإسلامية منهم ومن الانخداع بشعاراتهم.

  6. هناك جهد كبير من قبل المفكرين الإصلاحيين في العصر الحديث لتبيان الطبيعة الدفاعية والأخلاقية للجهاد، وللتأكيد على ضرورة القراءة الشاملة للقرآن والسنة، ورفض تفسيرات النسخ المتطرفة، والتمسك بفكرة أن “الأصل هو السلم” في العلاقات الدولية، وأن الحرب استثناء لخطر محدق، لا قاعدة عامة.

  7. الجهاد اليوم يتخذ أشكالًا كثيرة قد لا علاقة لها بالحرب، كالجهاد ضد الأمية والفقر والاستبداد والفساد، والنهوض بالأمة علميًّا واقتصاديًّا. وفي ظلّ النظام الدولي الحديث، أصبحت هناك إمكانية لعقد اتفاقيات وتحالفات سلمية تنزع فتيل الصراع، وتحوِّل الاهتمام إلى تنمية الإنسان ورقيّه.

  8. ضرورة التصحيح الإعلامي والفكري على نطاق عالمي لإزالة اللبس عن مفهوم الجهاد، والعمل على نشر وعي معرفي يوضح للعالمين أنّ الإسلام بريء من تهم العنف أو الإرهاب المتعمَّد، وأنه دينٌ يرتكز على قيمٍ إنسانية مشتركة في رحمة الناس وإقامة العدل.


خاتمة

إنّ دراسة “الجهاد في الإسلام” دراسة وافية متعمقة تكشف لنا ــ بوضوح ــ أننا أمام مفهوم ديني وأخلاقي واسع، وليس مجرّد “حرب مقدسة”. لقد حمل المصطلح في طياته معانٍ مختلفة في مسيرة تطوره التاريخي واللغوي، ابتداءً من المقاومة الروحية للنفس، ومرورًا بالدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية للناس، وانتهاءً ببناء المجتمعات على أسسٍ من العدل والرحمة والكرامة.

إن المشكلة لا تكمن في المصطلح نفسه، بل في التأويلات الأحادية واستخدامه لأغراض سياسية أو متطرفة أو دعائية من بعض الجهات. وفي الوقت نفسه، تتحمل قطاعات من الإعلام العالمي مسؤولية سوء الفهم حين تختزل “الجهاد” في ممارسة إرهابية ضمن سياق معين، متجاهلةً عمق التراث الإسلامي وثراه.

إنّ التحدي الأكبر اليوم هو في استعادة الخطاب الوسطي المتزن، وتوجيه طاقات المجتمعات المسلمة نحو “جهاد” البناء والعلم والأخلاق والتسامح، ودعم الجهود العالمية في تحقيق الأمن والسلام للجميع. إن الاستنارة بالمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية وقراءة النصوص ضمن سياقاتها التاريخية والموضوعية ضرورة ملحة لأي تجديد حقيقي في فهمنا لمفهوم الجهاد. وبهذا، يمكن للإسلام أن يظهر في صورته الحضارية التي تجمع بين قوة المبادئ الأخلاقية والوعي بأولويات العصر.

ومن المؤمَّل أن تُسهم هذه الأطروحة المطولة ــ بما احتوته من شواهد وشروح تاريخية وفقهية ــ في رفع جانب كبير من الضبابية التي لحقت بهذا المفهوم الحيوي، وتقدم أرضية معرفية وفكرية لحوار أعمق بين العالم الإسلامي وغيره، مبنيٍّ على العلم والاحترام المتبادل والفهم الصحيح للمصطلحات.

بذلك نكون قد استوفينا عرضًا مطوَّلًا ومفصلًا لمفهوم الجهاد في الإسلام، استنادًا إلى النصوص القرآنية والسنة النبوية والتراث الفقهي الطويل، مع وضعه في إطار فلسفي واجتماعي وتاريخي متكامل. ورغم ما بذلناه من جهد لتقديم صورة شاملة، فإنّ هذا الموضوع يظل منفتحًا على مزيد من الأبحاث والحوارات، خاصّة في ظل تطورات العصر والتحديات العالمية الجديدة. ولعل خلاصته المركزية أنّ الجهاد في أصله جهدٌ يرمي إلى رفعة الإنسان وإقامة العدل وصيانة الكرامة، وأنّ الجانب القتالي منه مقيّد بشروط صارمة في السياق الدفاعي فحسب، وأنّ أي محاولة لتوظيفه خارج ذلك إنما هي انحراف وتشويه.


كتبت بواسطة تشات جي بي تي
مستمدة من كتاب “الإسلام يعني السلام” للباحث أميتاب بال